كالكوت: تذكرا وتذكيرا بعظيم مكانة بدر في تاريخ الإسلام، واعتبارا بجزيل قدر البدريين، يقوم جامع الفتوح، المسجد الهندي الكبير، بعقد أكبر مؤتمر بالهند في ذكرى غزوة بدر الكبرى وأهلها، على رئاسة مفتي الديار الهندية فضيلة الشيخ أبي بكر أحمد والمدير العام لمدينة المعرفة الدكتور عبد الحكيم الأزهري الكاندي. و'مؤتمر غزوة بدر الكبرى' من أعظم البرامج التي يعقدها جامع الفتوح، والتي يتجمع فيها آلاف المؤمنين من شتى أنحاء جمهورية الهند، بمن فيهم علماءها وأمراءها. ويقام مع برامج الذكرى الإفطارُ الكبير، والذي يتميز بتضامن المسلمين وتعاون بعضهم مع بعض. فقد تم اليوم استقبال الشياه التي تأتي من بلاد كثيرة كهديةٍ إلى الإفطار الكبير، والتي يبلغ عددها ٣١٣ شاة. 
بمناسبة ذكرى غزوة بدر، يدعو جامع الفتوح الأمة الإسلامية في كافة أنحاء العالم إلى أن يعتبروا بتعاليمها وأن يسترجعوا قوتهم الإيمانية لمقاساة جميع الأوضاع الداهية التي يواجهونها في هذه الأيام وفيما يستقبل. ويبدأ البرامج المختلفة اليوم بعد الظهر ويستمر إلى منتصف الليل.

مؤتمر 'بدر الكبرى': أكبر تجمع بالهند في ذكرى غزوة بدر

مكة المكرمة: يشارك إمامُ وخطيبُ جامعِ الفتوح، المسجد الهندي الكبير، فضيلة الشيخ الدكتور محمد عبد الحكيم الأزهري الكاندي في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي، الذي ينعقد برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود في يومي 17 و18 مارس تحت شعار "بناء الجسور بين المذاهب". وسيحضر المؤتمر في مكة المكرمة علماء وقادة الأمة الإسلامية من جميع أنحاء العالم. 

 رابطة العالم الإسلامي منظمة إسلامية عالمية جامعة مقرها مكة المكرمة بـالمملكة العربية السعودية تقوم بالدعوة للإسلام وشرح مبادئه وتعاليمه، تأسست عام 1962. منذ تأسيسها لا زالت تبذل جهوداً كبيرة في مجال التعليم والتربية والنشاطات الخيرية والإغاثية في البلاد المتخلفة من العالم.

فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأزهري يشارك في مؤتمر الرابطة الدولي

فونّاني: عقد اليوم مؤتمر 'الأذكياء' تحت رعاية منظمة الطلبة السنية (SSF) كتوطئة ل'سَينْسورِيامْ'(SENSORIUM)-حفلة تشتمل على مشاريع وخطط لتنمية طلاب الدرس والكليات الدعوية- في فناني، أرض سجّل فيها تاريخُ مخدوم. كتاب "الأذكياء" للشيخ زين الدين المخدوم رضي الله عنه عبارة عن مجموعة الأفكار التي تساعد تزكية القلوب وتطهيرها. فمؤتمر الأذكياء يهدف إلى تعميم نشر هذه الأفكار القيمة عالميا.
 
وترأس المؤتمر رئيس المنظمة فردوس السريجي الثقافي. وقدم الموضوع عضو المشاورة المركزية ل'ساماستا' عبد الجليل الثقافي الجيروشولي. ويشارك في المؤتمر محمد وأنس الأماني و القداة الآخرون. وشارك في المؤتمر الممثلون المختارون من المقاطعة بالإضافة إلى أعضاء لجنة العمل الولائية.
 
وقد تم التخطيط لمشاريع مختلفة من مرحلة الكليات إلى مرحلة الولاية كجزء ل'سينسوريام'. وتجري الآن اختبارات الكتب والدراسات البحثية عن مختلف العلماء والمناقشات الحارة والندوات والكتابات الجدارية وما إلى ذلك. سيتم عقد الحفل الختامي الأكبر في مقاطعة مالابورام الغربية في 19 و20 و21 أبريل.

باب الفوناني انفتح بمصراعيه؛ ينظم مؤتمر الأذكياء 

اللغة مقياس من المقاييس التي يعرف بها هوية الإنسان وثقافته، فالحفاظ على اللغة مع أصالتها وخصائصها هو حفاظ على هويته وثقافته. ومن عظيم فضل الله على اللغة العربية أن تدوم مع عزتها وكرامتها منذ بدايتها، وأن تمتلك مكانة مرموقة بين سائر اللغات دون أن تشوبها أي شائبة، بل تقدّمت وتطوّرت عبر القرون والعصور على مر الزمان، ولا تزال تجذب الناس إليها بفوائدها وفرائدها يتمثل فيها قول الشاعر العربي حافظ إبراهيم:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سائلوا الغواص عن صدفاتي 
ويكفيها فخرا أن تكون لغة كلام رب العالمين وسيد الكونين. 
وهذه اللغة السامية لها قصة تاريخية مع الهند عامة وكيرالا خاصة تمتد جذورها إلى العصر القديم، بدأت العلاقة العربية الهندية المليبارية في بداية الأمر كعلاقة تجارية محضة، ثم انتشر أطرافها وجوانبها إلى الدين واللغة والثقافة وغيرها، منذ مرحلتها الأولى التجارية كان للغة العربية وقع خاص بين أهالي كيرالا. كيرالا إحدى الولايات الجنوبية في شبه القارة الهندية كانت من إحدى محطات الأنظار لتجار العرب بكونها موردا لكثير من التوابل الغالية النادرة، واتسعت هذه العلاقة إلى آفاق جديدة بوصول الرسالة المحمدية السماوية إلى الديار الهندية الواسعة، ومع هذا التطور في العلاقة وجدت اللغة أصعدة جديدة في كيرلا حيث إن هذه اللغة أصبحت لغة العبادات والطاعة والقربة للمسلمين، كلما انتشر الدين في هذه الديار انتشرت اللغة انتشارا واسعا حتى بدأ العلماء والعوام أن يدرّسوا ويدرسوا اللغة بشكل موضوعي عميق، ومن ثم إلى تأليف وتصنيف وخدمة الشريعة الإسلامية والأدب العربي وطفقت اللغة العربية تؤثر في لغة كيرلا المليالمية حتى استُورد بعض الكلمات العربية إليها، وبدأ المليباريون يكتبون النصوص المليالمية بالحروف العربية، وتكونت هناك لغة جديدة باسم عربي مليالم. بداية تعليم اللغة العربية في ولاية كيرالا بداية تعليم اللغة العربية في ولاية كيرالا كانت من الحلقات المسجدية والأربطة الدينية، ويدرس هناك الطلاب أولا اللغةَ العربية الفصحى مع نحوها وصرفها وبلاغتها وغيرها من الفنون الآلية، ثم الفنون الدينية من الحديث والتفسير وعلم الكلام والفقه وما إلى ذلك.... وكانت الطلاب في تلك الفترة يهتمون بالأدب العربي أيما اهتمام حيث إننا نستطيع أن نجد كثيرا من التأليفات نظما ونثرا للعلماء القدامى، ومن أشهر تلك الحلقات المسجدية مسجد فنان(ponnani)، الذي اشتهر بلقب مكة مليبار، وكان بمثابة الجامع الأزهر في كيرالا، وكان يفد إليها الطلاب من شتى أنحاء العالم كإندونيسيا وماليزيا وسريلانكا، وكان هذا المسجد تحت عناية العلماء المخدوميين العظماء، وكذلك جامع كالكوت وجامع شاليت، وجامع تانور المشهور بقصته مع المستعمرين الإنجليزيين، وغيرها من المساجد القديمة العتيقة، وانتشر هذا النظام العلمي والمسجدي إلى كل أوب وصوب، وبعد هذه الفترة تكونت في الولاية جمعيات تضم المدارس والمعاهد، ومن أشهر تلك الجمعيات جمعية العلماء بسمستا كيرالا، وكذلك تأسست الكليات تحت إشراف الحكومة، ثم قام العلماء بتأسيس المعاهد الإسلامية التي يدرس فيها الطلاب العلوم الشرعية والمادية جنبا إلى جنب، ومع هذه التقدمات تحوّلت بعض الحلقات المسجدية إلى نظام الكليات، ومن هذا التطور في مجال العلوم الشرعية بدأ الطلاب يدرسون اللغة العربية بأسلوب أكاديمي جديد، ومن تلك الكليات كليات اعترفت بها الحكومة وغير معترفة بها تديرها الجمعيات الخاصة، والآن انتشرت هذه الكليات في ولاية كيرالا حتى لا نجد مكانا مهما خلت منه هذه الكليات العربية، ولكن هناك حقيقة ناصعة واضحة وهي أن اللغة العربية في كيرالا رغما قدمها تواجه مشاكل عديدة، وفي هذه المقالة المختصرة أريد أن أرصد حال اللغة العربية في كيرلا بين الأمل والخوف. المشاكل التي تواجهها اللغة العربية في كيرلاهناك تحديات كثيرة تعرقل مسيرة اللغة العربية، وكان من اللازم أن يكون التقدم والتطور أكثر مما يحدث الآن وهناك أسباب عديدة لذلك، وفيما يلي بعضها: 
1.	المناهج الدراسية الجامدة. 
هذا من أعظم المشاكل التي يواجهها المجال العربي في بلاد كيرالا، الطلاب وإن كانوا يبدأون الدراسة من الحضانة لكنها غير مؤثرة تأثيرا كبيرا ، فهم يبدؤون تعلم اللغة حقيقة عندما يلتحقون بالباكالوريا، ويتعلمون أبجديات اللغة في مرحلة يتخرجون كالمدرسين، وهذا لا يحل إلا إذا وسعت النشاطات اللغوية إلى الفصول الابتدائية، وأيضا يجب أن تستورد الكتب اللغوية الجديدة والبرامج التعليمية المفيدة ، وإلى الآن لا يعرف طلابها جامع الدروس العربية وقصص العرب 

2.	الاهتمام المفرط باللغة الإنجليزية: 
هذا التحدي يعوق أمام تقدم اللغة في كيرلا حيث إننا نستطيع أن نجد الآلاف المؤلفة من المدارس الإنجلزية تعلم هناك جميع الفنون باللغة الإنجليزية من الابتدائية أو الحضانة، وذلك تقليدا للثقافة الغربية الماجنة الوافدة إلى هذه البلاد، ففي نفس الحين لا نستطيع أن نجد أي مدرسة تعلم الفنون باللغة العربية منذ الابتدائية . 
3عدم تشجيع الإنشاء والمكالمة باللغة العربية 
هناك كثيرون يتعلمون اللغة العربية في مختلف الكليات لكن لا يشجعهم أحد في الإنشاء والمكالمة بها كما ينبغي، نستطيع أن نجد بعض العلماء القدامى من هذه الولاية الذين أترعوا المكتبات الإسلامية بتأليفاتهم القيمة، لكنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا بها. والجيل الجديد يتكلمون قليلا ولكن لا يستطيعون التأليف فيها. 
3.	الأساتذة يلقون المحاضرات بالمحلية 
اللغة المستخدمة في التعليم هي اللغة المحلية، ومن هنا نشأ قصور عظيم، عندما تكون لغة الأداء هي اللغة العربية يتحتم على الطالب فهمها ودراستها. 
4.	الإهمال الكبير من جانب الحكومة تجاه اللغة وجامعاتها ومدارسها ، 
لا نستطيع أن نجد الحكومة تعتني وتهتم باللغة العربية ومدارسها كما ينبغي ، ومن المثال الحي لذلك أن الحكومة لم تقدم اهتماما للعريضة التي فيها المطالبة بالجامعة العربية بعد، وكذلك الوزراء المسلمون لم يقوموا في هذا الجانب بالمطلوب 

5.	كونها لغة العلماء في نظر العوام 
لا يزال يظن أكثر العوام أن اللغة العربية هي لغة العلوم الشرعية فقط ، لا يعرفون عن فرصها ومجالها ولا عن أدبها وثقافتها، ولا يعرفون أن الناس في أكثر من عشرين دولة يتحدثون بها وأن الأمم المتحدة اعترفت بها كإحدى لغاتها الرسمية.
6.	انهماك المسلمين في شواغل الدنيا وانشغالهم عن الدين وعلومه، 
 كان أكثر التصنيفات في العصور الماضية بأقلام العلماء الشرعية، وأما الآن عندما أصبح الناس يبتعدون عن العلوم الشرعية فأدى ذلك إلى عدم الاهتمام باللغة العربية. 
7.	طلاب العربية لا يريدون التعمق في فصاحتها وأشعارها ونثرها، بل يتعلمونها تعلما سطحيا فقط لكي يتجاوزوا الامتحانات، وذلك أفضى إلى أن يكون السوق اللغوي راكدا دون أي حركة أو نشاط. 
8.	انعدام المجلات والجرائد العربية كالمطلوب لنشر النشاطات والأعمال اللغوية. 
9.	قلة الاشتغال بالأخبار العربية وقنواتها الآمال1)	انتشار التجارات وتوطد العلاقات بين العرب وبين الكيرلاويين 
يمكن لأي راصد للأحوال الاقتصادية في بلاد كيرلا أن يجد تطورات مكثفة في مجال التجارة بين الدول العربية وكيرالا، هناك مشاريع كثيرة تجري في هذه الولاية بالتحالف مع العرب، وذلك يحتاج إلى من تمكن من اللغة العربية في مختلف مجالات العمل فيها. 
2)	مكانة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية في مجال التجارة 
بما أن التجارة أصبحت في رصيف العولمة ازداد الحاجة إلى المترجمين بشكل كبير لترجمة الرسائل والوثائق، وذلك فتح أبواب الفرص للماهرين في لغتي الإنجليزية والعربية. 

3)	إنشاء مؤسسة تقوم بالنشر في كيرلا 
في الآونة الأخيرة وجدنا بعض التطورات في إنشاء المؤسسات والدورالتي تقوم بنشر الكتب العربيّة ، ومن أبرز تلك المؤسسات دار المعارف التي نشرت عددا كبيرا من الكتب العربية. 
4)	المطالبة بالجامعة العربية 
المطالبة المستمرة بالجامعة العربية من الحكومة أيضا مما يعطي الأمل في مجال اللغة العربية، تحقيق هذه الجامعة العربية الحكومية يكون خطوة كبيرة تؤدي إلى ثورة علمية عربية عملاقة. 

5)	إرسال الطلاب إلى الجامعات الخليجية 

إرسال الطلاب إلى الجامعات الخليجية يلعب دورا بالغا في تقدم اللغة في كيرلا، حيث إنهم بعد أن يتبحروا في اللغة باستغلال وسائل الدراسة المختلفة هناك يستطيعون أن يؤثروا هنا بقدراتهم ومهارتهم. 
6)	إعداد المخيمة العربية والندوات الخاصة، 
هذا مما يجعل المجال العربي نشيطا دائما عبر تكوين الفرص للخطابة والكتابة والمناقشات، يجب أن ينتشر هذه النشاطات إلى الطلاب الصغار لكي يكون الثمرة كبيرة 
7)	استخدام الآليات الحديثة 
استخدام وسائل التواصل الاجتماعية وغيرها من الآليات الحديثة في تكوين المجموعات والمنظمات التي تضم العلماء والأدباء من البلاد المختلفة تنسّق النشاطات اللغوية بشكل محمود. الخاتمةنستطيع أن نستنتج مما سبق أن مجال اللغة العربية في كيرلا ليس راكدا ولا نشيطا بل يوجد فيه بعض الحيويات، نحن كالمسلمين يجب علينا أن نهتم ونعتني باللغة العربية، يقول الأستاذ مباركي محمد في إحدى مقالته : وليسمح لي المدرسون والمشتغلون باللغة العربية بحثا ودراسة وتدريسا أن أقول كلمة للتاريخ تلج من لهم قلوب يفقهون بها " نحن في حاجة إلى وقفة نتجه فيها بصدق وعزم إلى المحافظة على هويتنا مع الأخذ بأسباب التقدم المعاصر فنربي أبناءنا تربية إسلامية ونعلمهم لغتنا وتاريخنا وتراثنا وإسهامنا في الحضارة الإنسانية التي بناها قامات في العلم والأدب والفن وتقوى الله وأقرؤو كل العالم الذي فتحوه الإقراء الحقيقي وعلّموه العلم النافع، نحن في حاجة إلى وقفة نستعيد فيها بالعلم والثقافة للانطلاق الحضاري، فلم يحدث في التاريخ أن انطلق طير بأجنحة طير آخر ولا نهضت أمة تجاهلت جذورها وتعلقت بفروع أمم أخرى، أن نخطط مناهجنا بناء على عقيدتنا وشريعتنا السمحة مع الأخذ بالمعاصر النافع مهما كان مصدره. إذا انطلقنا انطلاقة المتمسك بمقوماته فإننا سننجح- بإذن الله- في كل أعمالنا ونقود أجيالنا تخطو خطوات قدما تبني مستقبلها بناء قويا رشيدا أساسه الأخلاق وقوامه العلوم والمعارف" . المراجع1.	 الأسس المنهجية لتدريس اللغة العربية والعوامل المؤثرة، أ. مباركي محمود، كتاب المؤتمر "مناهج تدريس اللغة العربية"،5-7 فبراير 2018 قسم اللغة العربية، جامعة كيرلا، 
2.	اللغة العربية والعلوم الإسلامية في كيرالا بين المبدأ و التطوّر - مقالة د/ محمد أنظر، مجلة اللغة، 4 أبريل 2015 
3.	تراث مسلمي المليبار في اللغة العربية وآدابها- مقالة د/ ن جبار، مجلة نداء الهند، 20 أبريل 2017 
4.	تعليم اللغة العربية في ولاية كيرالا، الهند د/ بهاء الدين محمد جمالالدينالندوي، مجلة النهضة ، 13 يوليو 2017 
5.	الكليات العربية بالديار المليبارية في الهند - د/ منصور محمد الهدوي، مجلة الرابطة، العدد 605، مارس 2017

تطور اللغة العربية في كيرالا وتحدياتها الحديثة

مفردات اللغة العربية وأثرها في وحدة المسلمين

اقرأ ؛ الإضاءة على أهمية القراءة

إنّ العالمَ يتحوّل من حالٍ إلى حال، حينًا بعد حين، فاليوم مختلفٌ تمامًا عن الأمس والغد، بما فيها من تقدّمٍ اجتماعي واقتصادي وثقافي، تتأثّر في جميع نواحي حياة الإنسان، ومن هنا تتولّدُ كلّ يوم القضايا العديدة وشتى المسائل الفقهية، فكيف يجد المسلم الأجوبة المرضية والحلول المناسبة لهذه المستجدات من الكتب الفقهية التراثية، حيث إنها لم تحدث في الواقع، بل ربّما لا تكون متوقعة ولا متصوّرة في عصور متقدّمة، فلا يوجد في تلك المسائل المستحدثة بيانٌ في كتب الفقهاء لا تصريحًا ولا تلويحًا، فنذكر في هذا المقال كيفية معاملة الفقه الإسلامي مع هذه القضايا الجديدة. هذه وقفة وقف عليها بعض العلماء المعاصرين، زاعمين أن الفقه بحاجة ماسة إلى تجديده وتحريره، ولا بد من الرجوع إلى الكتاب والسنة بغير واسطة ؛ ظنّا بأنها لم تُذكر في كتب الأئمة الفقهاء ؛ لكونها متولدات العصر ومستحدثات اليوم، والعجب أن هذه الدعوى تصدر من بعض رجال الدين الذين لهم صيت وشهرة في العالم كلّه، مع أن العلماء المتقدّمين نصّوا على انقطاع الاجتهاد لعدم توفّر آلاته وشروطه، كما ذكره الإمام ابن حجر الهيتمي في تحفته وفتاويه. هذا، وكبار الأئمة المقتدين بهم مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزّالي - قيل عنه : جميع الكتب الشافعية بعده عيالٌ على كتبه، والإمام الروياني - قيل عنه: لو ضاعت نصوص الشافعية لأملاها من صدره ، والإمام القفار شيخ والد إمام الحرمين والقاضي حُسين لم يصلوا إلى هذه المرتبة ؟ هذه سفاهة وقلة حياء لا يتجرأ عليها إلا الأطفال الصغار ! ألا ترى أن أمثال الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي والإمام الجويني لم يستمرّوا على دعوى الاجتهاد رغم رسوخهم وعُلوّ كعبهم في العلوم الشرعية، ومن سبيل ذلك سؤال الإمام المناوي : "إذا كان بين الأئمّة نزاع طويل في أنّ إمام الحرمين وحجّة الإسلام الغزالي - وناهيك بهما - هل هما من أصحاب الوجوه أم لا - كما هو الأصحّ عند جماعة، فما ظنّك بغيرهما ؟". وبالإضافة إلى ذلك، أنه قد تولّدت في زمن الإمامين النّووي وابن حجر مالم يتولّد في زمن الإمام الشافعي وأصحابه - رضي الله عنهم - مع أنهم لم يدّعوا الاجتهاد ولم يدْعوا إلى تجديد الفقه، فدعوى الاجتهاد من هؤلاء الطفيليّين في غير محلّه، ولا يعترف به في الفقه الإسلامي، فالسؤال الذي يبدر من الناس في هذه الحال هو : كيف يُعاملُ الفقه الإسلامي النّوازل العصريّة وكيف يعالجها في ميزان الشريعة ؟ وممّا لا يخفى على أحد، أن أصحاب المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة لم يذكروا أنها غير صالحة لمن بعدهم، بل تبِعها مَن بعدهم في القرون الكثيرة في بلاد المسلمين كلّها، ولم يترك مُشيّدوها تلامذتَهم ومن بعدهم ضعفاء في العلم لا يستطيعون الكلام في الفقه، بل الأمر على خلاف ذلك، عايَشوا مع علم الفقه ورسخوا فيه وتعمّقوا في أصوله وفروعه، تطلّعوا إلى أحداث العصر ووقائعه؛ ليجدوا حكمها في الفقه الإسلامي ، وهم عارفون بأن أي عصرٍ لا يخلو من حدوث أمرٍ لم يقع قبله، فلا ريبة أنّهم أبقوا للأجيال القادمة بابًا للوصول إلى حكم الحوادث والنّوازل، الباب الذي دخل فيه العلماء المتأخّرون. فهو الذي سمّاه الفقهاء 'البحث'، والذي يتمثّل كطريق وحيدة للتوصّل إلى معالجة القضايا الجديدة، وكآلة قويّة تدلّ على حيوية الإسلام وصلاحيته في كلّ زمن، فالفقهاء لمّا تنزل بهم النوازل - بعد أن تمّ تدوين المذاهب الفقهية - يتناولون هذه الآلة القويّة المستديمة صحّتها وأهليّتها، ويقومون بتطبيقها تطبيقًا وفقًا للقواعد الشرعيّة. على سبيل المثال، التّجارة الرّقميّة أو التّجارة عبر الإنترنت، حينما سيطرتْ على الأسواق إثرَ الثورة الرّقميّة المدهشة، تهيّأ بعض الرّجال للخوض في الكتاب والسنّة، بدون اعتبار النصوص التراثيّة ؛ بسوء ظنهم بأنّها لا تشمل هذه المسائل الحديثة؛ لكونها قضايا عصريّة تولّدت اليوم، لكن كفى بنا فخرًا أنّ الإمام الشعراني قد بحثَ في هذه المسألة في حاشيته على تحفة المحتاج، حيثُ شبّهها بالكتابة، وهي كناية ينعقدُ بها العقد مع النّيّة، فيقول : "( قوله : والكتابة إلخ ) ومثلها خبر السلك المحدث في هذه الأزمنة فالعقد به كناية فيما يظهر١" (حاشية الشرواني )، وفي هذه الصورة كافة المسائل لا نجدها إلاّ وللفقه التراثي يدٌ طولى إمّا بنُصوص المتأخرين، أو ببُحوثهم. البحث :أمّا البحث فهو استخراج الأحكام من نصوص الأئمّة أو وجوه الأصحاب أو القواعد الفقهية الكُلّيّة، فلا تجدُ أيّة مسألة جديدة إلاّ أنّها اشتملتْ إمّا تحت إطلاق الأئمّة أو القواعد الكلّية كما قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "يبعدُ كما قال إمامُ الحرمين أن تقعَ مسألةٌ لم ينصَّ عليها في المذهب ولا هي في معنى المنصوص ولا مُندرجةٌ تحت ضابط" ( المجموع )، ومن الجدير بالذكر أنّ بحوث المُتقدّمين مع تمادي الزمان تكون منصوصة للمتأخرين لقاعدة 'مُولّدات الأقدمين منقولة اللاّحقين'، فيمكن لهم البحث في تلك البحوث، فهي تسهّل عملية البحث؛ إذ يوجد في بحوث المتقدمين ما لا يوجد في نصوص الأئمة الأقدم منهم ؛ لأنّ بحوثهم بصفة أنها وقعت قريبًا من العصر توجد فيها ملامح وإشارات إلى نوازل الزمن المستقبل، وفي هذ الطريق تكون البحوث اتكالاً على منقولات المتقدّمين نقولاً للمتأخّرين يمكن لهم معالجتها ومناقشتها، وهلمّ جرّا؛ حتى تصبح المسائل العويصات سهلةً ميسّرة. وأيضًا نرى في كتب القدماء أنّهم يتصوّرون المسائل ويفرضرنها قبل وقوعها في زمنهم وأحياناً لم تحدث في زمننا هذا، ثمّ يبينون أحكامها مع ذكر القيل والقال وسرد الاعتراضات والردود؛ حتى يُتوهّم في بعض الأحيان أنها مجرّد إطالة في الكلام والإكثار به بلا فائدة، لكن الحقيقة خلاف ذلك؛ فإنّ أغلبها ظهرت وحدثت بمرور الأيّام، مثل مسألة ولد الكلب الآدمي، وتوزيع الأعضاء وزرعها، فلم يحتج المتأخرون إلى البحث عن هذه المسائل النازلة مؤخرة، بل حصلوا عليها من نصوص الفقهاء القدماء بنفسها، مما يُشعر بسعة علمهم ودقّة أفكارهم وإحاطتهم بأحوال الناس في كل زمن. تطبيق البحث : وقد مرّ البيان في البحث أنّه هو الطريق الوحيد الذي أبقى لنا القدماء للتوصل إلى حكم النوازل العصرية، فإذا تولّدت مسألة جديدة ولم يوجد حكمها في كتب المتقدّمين يطبّق 'البحث' هنا كآلة من آلات الفقه للاستنباط، فهي عن طريق مطالعة كتب الفقه للأئمة القدماء بدقّة، فإمّا أن توجد المسألة تحت إطلاقهم وتعميمهم، أو أن يوجد مسألة مثلها، لكن تعرف باسم قديم، مثل 'استخدال المنيّ' المعروف الآن ب 'التلقيح الاصطناعي' أو صورتها القديمة مثل يانصيب ( لوتاري ) كانوا يقرعون الأرقام، يفوز من يقرعُ، كما ذكره الإمام الرازي في تفسيره ، أو توجد متضمنة تحت تعليلهم أو مندرجة في القواعد الفقهية الكلية. لكن، مما يجب التنبيه عليه في هذا الموضع، أنّه يجب للباحث الاتصاف بأوصاف ذكرها الفقهاء، والاطلاع على شروط البحث والاحتياط بأصول المسائل وفروعها، وإلا ستصبح القضية تحليل ما حرّمه الله، كما يرتكب على الجريمة هذه كثيرٌ من الناس ، اعتمادًا على قاعدة 'الضرورة تُبيح المحظورات'، يطبّقونها في غير محلّها ويفتون عليها بلا ضرورة شرعية، هؤلاء فرقة سمّاها الإمام شهيد رمضان البوطي 'الإباحية' في كتابه ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، بمعنى أنهم يجوّزون كل شيء بناءً على هذه القاعدة ،فيجب على الباحث أن ينظر فيها باعتناء كبير وورع شديد. وكذلك لا يُستحسنُ أبدًا التسرّع والتعجيل إلى 'البحث' من غير رويّة ولا تفكير، بل يجب عليه المطالعة الواسعة والإحاطة الكاملة بالكتب التراثية ؛ حتى يكون على وعيٍ تامّ وإدراك صحيح، وإلاّ يصير البحث خلافَ ما أقرّها الأئمّة المجتهدون وأصحابهم المهتدون، ولذلك عدّ العلماء من شروط الباحث أن يكون ذا حظّ وافر من علم الفقه وحافظ المذهب، وإذا حصل على هذا اليقين تبدأ عملية البحث، فعصارة الكلام : أنّه لا داعي لدعوى التجديد والاجتهاد لمعالجة النوازل الحديثة في الفقه الإسلامي ، بل 'البحث' كافٍ يسدّ مسدّ التجديد والاجتهاد بشكل أتمّ. إذن الشريعة الإسلامية كاملة شاملة، تامة وعامة، صالحة لكل زمان ومكان، غالبة على كافة الاعتراضات والانتقادات. ١ - ما ثبت الآن أنّ هذه التجارة الإلكترونية تراعي ركن الصيغة في البيع، أمّا بقيّة أركانها وشروطها فهو بحث آخر.

دعوى التجديد وإمكانية الاجتهاد ؛ كيف يعالِج الفقه الإسلامي النوازل العصرية ؟

الحضارة التركيةمدينة الآثارمن محاسن الصدف أول ما استشعرت به بعيد وصولي وأنا خارج من المطار إذ بي أفاجأ بحصول المطر الغزير، حيث يغمر أرجاء نفسي كلها، وطفقت الطائرة تهبط في مطار أتاترك بإسطنبول الساعة السادسة مساء في اليوم السادس من شهر يونيو سنة 2012. وتقع إسطنبول في جانب أروبا حيث تلتقي بها كلتا القارتين - اَسيا و أروبا - في الخليج البوسفير وتوجد بها أيضا عدة مطارات صغيرة الأخرى بعيدة من هنا ومن أقدمها مطار باسم سباككجن. 
بدأ المطار يمتلأ بالزوار ولم يظهر فيه الظلام قط ولو كنا في الساعة السابعة مع ثلاثة أشخاص كانوا من الأدلاء المكلّفين بالرحيل رسميا في دولة التركيا. 
وعلى عادة موسم التركيا، لا تغرب الشمس إلا في الساعة التاسعة فنهارهم يغلب الليل، عشاءهم في العاشرة والنصف من الليل وكذا يؤذن للصبح في الرابعة من الفجر. وفي أشهر الصيف من مايو ويونيو ويوليو، يكون درجة الحرارة عالية تبلغ إلى قرابة ۲۸°درجة غير أنّه تقل فيها الرطوبة حتى لا يحسّ الجسم بالحرارة الكاملة في ذلك القدر وتهطل الأمطار في الشهر الواحد حينا بعد آخر أربع أو خمس مرّات وإن كانت بأشهر الصيف، كما تنزل في بلدتي كيرالا. 
ولحسن الحظّ، يجد أهلها الفصول الأربعة مرة واحدة على الأقل في عام واحد، تمتد إلى ثلاثة أشهر حتى إنهم يرصفون الشوارع والمبانى على منوال الموسم. شهدت بعضا من مثلها من الشوارع العريضة والجسر الذى يتراوح فوقها وكذا الأشجار تنشأ على جوانبها. تحرك المركب عبر الازدحام المروري تطلّ شبابيكه على البيوت الصغيرة المصنوعة على قمم الجبال الخضرة في صورة تألف بالبيئة وتنعكس على أبنية هائلة التقاليد التركية في فنّ المعمار كما تدل على مهارة قارة أروبا.
ومن طريف المنظر هناك، التراث الغابر في حافة الشوارع والذي يرى عيانا عندما يرحل عبر طرائق هامّة من إسطنبول وكذا ازدهار هذه المدينة برموز ممزوجة بين الخلافة العثمانيّة وبين أثر التهذيب الغربي. شهدت مدينة إسطنبول عدّة مكافحات تاريخيّة لما كانت عاصمة قديمة للتركيا المحتلة كما أن لها مكانة مرموقة بالتعدديات المختلفة، بيد أن سكانها كانوا يحفظون آثارهم التاريخية. وبها يقع متحف مشهور بـتوب كابي توجد فيها الملابس والسّيوف وغيرهما من آثار الأنبياء والمرسلين يحبّهم المسلمون والنصارى على السواء يحفظونها بغاية الحفظ والحماية، وهو لا يزال يزدحم بعدد كثير من الزوار والسيّاحين طوال السنة. ويسهل جدا للسيّاحين التجوّل حول الأماكن النضرة بدون دليل مرشد، لانّ تركيا تهتمّ دوما بوسيلة المواصلات العاديّة بالإضافة إلى ما يوجد فيها من بعض الشوارع المخصوصة لـميترو باص وخدمة ترام مثلما يمكن القيام بالسفر يسرا جلّ جوانب المدينة بدون أيّ حدود بنظير البطاقة الرخيصة لثلاثين روبيا. ويجدر بالذكر أن تهييئ هذه الخدمة على شكل يصل المسافرون إلى ما يرومونه بين خمس عشرة وثلاثين دقيقة على الأقلّ إذ فيها خدمة الباص في كلّ ثلاث دقائق حتى وقد أعجبني من هناك منظر المسافرين ينتظرون هذه الخدمة واقفين في طابور واحد لا ثاني له غير أننا نحسّ بازدحام شديد بالزوار حيث إنه موسم السياحة.
نحن في المساء الأول حول قلعة السلطان أحمد من قسطنطين وهي تستحقّ التعبير في التاريخ الإسلامي، تسع مساحتها إلى كلومترات، وبها دفنت ذكريات ساخنة لمحمّد الفاتح ولاحظت منها بعض الأحجار عدلت إلى جنب الشارع بسبب هرمها القويّ. واسم إسطنبول مقتبس من لفظ قسطنطين وقد قادت طائفة من ولاة العالم جيوشهم إلى حرمها هادفين إلى فتحها متشجعين من أقوال الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث قال مرّة بعد أن رءاها في سير ليلة الإسراء والمعراج "ستفتح قسطنطينية ونعم الأمير أميرها" هو الأمير محمّد الفاتح.
وكان المسكن مجهزا لنا في الحميديّة الواقعة قرب القلعة، فيها مطعم في بنيان نقيّ صاف المنظر مبسوط بالفرش الأنيقة، وفي جانبه مطبخ مع التسهيلات المعاصرة يجهز فيه الخبز مع السمن والزيتون، أكلنا منها العشاء قدر الحاجة على عادة ما يأكلونه قبل المغرب. ولما فرغنا منه أذّن أذان المغرب. مسجد أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنهكان المسكن في الحميدية مركزا دراسيا تحت 'المدرسةالنورية'. لما شاهدت ذلك المبنى من ثلاثة طوابق وما فيها من تسهيلات عصرية، ذكرت مدارس في بلدي تعاني من عدم توفر تسهيلات كافية وكذا كانت هنالك مساكن ومراكز دراسية لطلبة علم يأتون إليها من شتى أنحاء العالم لدراسات قصيرة المدى. وقد رتب أكثر من مائة رف صغير في أحسن رونق وأبدعه قريبا من المدخل إلى الطابق السفلي، يمكن للضيوف وضع أحذيتهم فيها فرديا إلا أن عليهم حفظ رقم الرف.
طارت شهرة التركي باسم البساط والرخام وبأخذ الحذر والحيطة في النظافة طوال العيش، يشهد عليها أكبر سهم من المؤسّسات الواقعة بها وهي مزخرفة مع اهتمامهم بحفظها من الأوساخ المتلوّثة من الخارج، رغم أن المطر يمطر بها في أغلب الأحيان. والحميديّة عبارة عن بناء السكن المؤلف من ثلاث غرف في الطابق الثاني، يجيد كلّ منها نوعا أو نوعين من الأريكة ونوع من آلمرا لحفظ بعض الملابس. جعل الجميع يستريح في الأريكة لكي يطلقوا من تعب السفر الطويل. عندما شرعنا إلى النوم، ظلنا ظانين عنهم أنهم لا ينامون عادة على الفراش الغالي والسجّادة النفيسة، فما لبث إلاّ قليلا حتى جاء الشيخ أحمد قائما بتكوين الأريكة إلى منوال الأسرّة فكان هناك الفراش والسجّادة وكذا بردة ملفوفة ضمن الأريكة حتى فاضت تلك الليلة بالنوم العميق على الاستعجال. استيقظت مبكّرا في الساعة الثالثة وتوضّأت بالتوّ، والمركب يستريح في الخارج للذهاب إلى مسجد لصلاة الفجر، يقع بعيدا من هنا باسم مسجد السلطان أبي أيّوب الأنصاري كما أنه يستريح بعد وفاته في ضريح هنالك. وقد أصبح الصباح صحوا وسيما لما فجر ببرد لطيف عليل. وبعد حين قليل، انتهى السفر عبر الشارع السّريع في سيّارة وكانت شبابيكها تشكل لوحة فنية رائعة بين الأصالة والمعاصرة، وأخذ دوي أذان الفجر يرتفع من المسجد في الساعة الرابعة والربع. مشينا إلى المسجد الذي يحتوى على مئات البشر بقرب الدكاكين المفتوحة، وكان الناس كلّهم يفيضون إليه، وفي بداية الدخول وضعت كيس النعل في الرفّ بعد إلقاءه فيه صونا له من السرقة. ويمكن التعبير عن المساجد التركيّة بأنها بناء كبير في طوله وعرضه فائق فنّه على سائر المساجد من العالم مؤلف من قبّة ومنائر ذوات العدد. وداخلها يزود بالنقوش وداخل المنائر بحسن الخطوط تنعكس على مهارة الفن التركي. وكذا يوجد وراءه مقعد خاصّ مرتّب لجلوس المؤذّن خلاف ما يشاهد عادة في بلدتي كيرالا. قام المؤذّن يقرأ سورة يس حتى ملئ المسجد بملايين البشر قبل بلوغ المؤذن إلى نهايته، وخطب الإمام بعد الفاتحة يسرد حكايات عن أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنه ثم دعى الله جلّ وعلا. وبحسب تاريخ الإسلام، هاجر الصحابة إلى أرجاء العالم لنشر دعوة الإسلام حتى في زمن النبيّ صلّى الله عيله وسلّم، وعلى رأسهم أبو أيّوب الأنصاري الذي بعث إلى دولة مصر، وكان بيته في المدينة المنورة سكن فيها رسول صلّى الله عيله وسلّم بعد بعثته رضي الله عنه إلى مصر. شهد هذا الأنصاريّ عدة حروب بعضها بالرئاسة وأخرى بالمكافحة حتى إذا كان في الهرم مرض أثناء القتال لمّا قاد يزيد بن معاوية الجيوش إلى القسطنطين لفتحها سنة ۲٧۸هـ فزاره يزيد وسأله عن الوصيّة فقال لتبليغ سلامه وتحياته إلى إخوانه ولاستمرار الحرب ولحمل جسمه إلى غاية ما يبلغ الجيوش إليها حتى يضع الحرب أوزارها ولدفنه تحت أقدامهم في جزء من تلك البقعة ثم نفس أنفاسه الأخيرة من حياته وتقدّمت الجيوش إليها بعد وفاته أيضا، وأخيرا فتحت القسطنطينيّة ودخلوا إلى داخل القلعة وقاموا بدفنه فيه. تشرفت بصلاة الصبح الأولى في تركيا، التي ذهبت بي إلى تجربة فريدة في حياتي. وهذا إلى جانب ما قد شاهدته بها لأول مرة من حياتي خلاف ما يجرى في بلدتي، من الأذكار والأدعية بعد كل الصلوات المكتوبة يذكرها المؤذّن جهرا والباقون يتبعونه سرّا حتى يستغرق الأذكار فقط قرابة عشر دقائق. والمستوطنون منها عرّفوا عن الضيوف الكرام من دولة الهند على إمام المسجد وعلى إثره ترأس الإمام لزيارة كبيرة إحتوت على مئات الزوّار دعا أوّلا في العربيّة ثم في اللغة التركيّة، فقد أحسست بالريح الهادئة والتى تتيح لنفوسنا السلامة والإطمئنان وتذكّرت ذكريات الحزن من سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث راح إلى المدينة المنورة قبل القرون لدعوة الإسلام وسال الدموع أثناء الدعاء الذى يعطي انطباعا خاصا سليما للقلوب. أضحى الصباح هدوءً لما خرجنا من المسجد وكان نجم جان ينتظرنا بشربة يهبّ منها البخور ونوع من الخبز وهي عادة التركيّين تعجبهم قبل شرب الشاي في الصباح الباكر، وهي عبارة عن نوع من الغنيسة المغلية مزجيّة من الأرزّ والشيء المختلط الذي لا أدري البتة ماهيته.
 مترجَم من كتاب فضيلة الدكتور عبد الحكيم الأزهري الكاندي

على ضفاف البوسفير

بحر الشعر: الكامل سرٌّ به تحلو دموعُ بلاء 
ويعلُّ قلبي من كُؤوس عزاء سِرٌّ به تصفُو سماءُ تفاؤلي 
وتُمَدّ أحلامي إلى الجوزاء دعني أغُصْ بِلجاجه متطلّعاً 
معنى حياةٍ دائم الأنواءِ الورد يبكي شوكه، وتحسّرا- 
يَنسَى ندى إكليله بِعماءٍ والشوك أكبرُ مِنحةٍ في محنة 
للورد إذ هو حفّه بِوقاء والأرض تشكو السُّحبَ من أمطارها الْ- 
هطلاء، تفسد عيشة الأبناء

(١)






 لكنها تُحيي البذورَ وتُبثِقُ الْ- 
أزهارَ من أكمامِها الخضراء وبها السواقي رنّمت
(٢ )

 لحن الصفا 
وَقَرَتْ عطاشَ الوحش بالإرواء 
والتبر حتى مُدَّح للكير لَما- 
عزّزته أو صِيغ منه حلائي وجميع هذا شاهد متبلور 
بحكيم صنعٍ مانحِ الآلاء أوّه إلهي..!! ما قضيت لنا بَلاَ 
حتى منحت لنا بِلا إحصاء قُذِف الخليل إلى لظى متلهّب 
ولقد تبيّن سرّ كلّ بلاء فقضى السَّما فالنار برد أصفر
(٣)

 
يا حبذا ما نال من نعماء..! الخضر بيّن للكليم حقائقا 
فتوضّحت منحٌ بدون خفاء
(٤)

 أيّوبُ لمّا مسَّه ضرٌّ أتى 
إبليس وسواساً من الضراء فأفاده سرّ البلاء فعاد ب- 
خفي حنين مطرقا بشقاء
(٥)

 يا من تحسّر من نوائبَ حلّتِ 
بوراء كلّ عناً جميلُ مَراءٍ فارتع بوادي الصبر عند ملمّة 
واشكره فى الضراء والسراء ما عاش فينا محنةٌ طولَ المدى 
مِنَح الإله تعيش طول بقاء ما فاز في حربٍ تشاؤمُ خافق
(٦)



 
إن التفاؤل ظافر الهيجاء ضاقت علينا الأرض حيث تعسكر ال- 
فيروس في الأصقاع والأنحاء فكأن رحب الأرض سجن أكبر 
وسقوفه سُحب الغموم وداء لكنه من نال فلسفة البلا 
يبدو له آلاءُ وقتِ وباء فيروسُ ألجم للحروب ومتّع ال- 
كتّاب والقرّاء من نبلاء فيروس قرّب بين أم وابنها 
وبين أزواج من البعداء
 فالنفس ما بكت البلا ما أدركت
سرّ البلاء بعينها العمياء كم ذقتُ علقمة الحياة ومهجتي 
صارت وقود النار في أحشائي كم مجّ عيناي العقيقَ من الأسى 
(٧)



 
وهمستُ "ليتي تربة بفناء" لكنّني أبصرت بعد هنيهة 
مِنًحاً وفتْني مدةَ البأساء
(٨)



 لو أنّني أبصرتها حين البلا 
فيلذّ لي الآلامُ دون مِراء وأهمّ ما حصّلت من منح البلا 
أني رأيت حقائق الأشياء
(٩)



 فعرفت قوما رافقوني أمس ما- 
رفق الذئاب الشاء قصدَ دماء 
(١٠)



 وأقول ما من محنة حلت بنا 
إلا لتسعدنا بنوع عطاء فاصبغ بهذا السر لبسَ تجارب 
فترى جمال تجارب دهياء وامسح بهذا السر دمع كآبة 
تُلفِ السعادة عادة بِولاء
(١١)



 ويفوح أطيب ما يصلّي العبد بال- 
مختار ما يعلو حنيف لواء الملحوظات 
١- المراد ب'الأبناء' أهل الأرض. 
٢- صيغة الماضي في 'رنّمت' و'قرت' لتأكد الوقوع. 
٣- 'قضى السماء' كما قال أمير الشعراء: 
وَإِذا قَـضَـيـتَ فَـلا اِرتِيابَ كَأَنَّما 
جـاءَ الـخُصومَ مِنَ السَماءِ قَضاءُ 
والبيت إشارة إلى قوله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (الأنبياء/69) 
٤- هذا إشارة إلى آخر ما وقع في قصة موسى والخضر عليهما السلام المذكورة في سورة الكهف من (أمّا السفينة فكانت لمسكين.. إلخ) 
٥- 'وسواسا' أي للوسواس أو موسوسا على الحال بإرادة اسم الفاعل بالمصدر. 
والبيتان إشارة إلى قصة أيوب عليه السلام مع إبليس اللعين. وهي أن أيوب عليه السلام لما فاته نعم كثيرة من المال والأبناء وصحة البدن وبات في مرضه زهاء ثماني سنوات جاءه إبليس يوسوسه بأنه ليس نبيا. فبيّن له نعم الله تعالى له مظهرا إيمانه القوي. 
"وعاد بخفي حنين" مثل عربي بإبدال 'رجع' بمترادفه، أي رجع بدون جدوى ولا فائدة. 
٦- أي قلب خافق 
٧- شُبّه الدمع بالعقيق في لونه حيث مزج الدمع بالدم من شدة البكاء. 
٨- أي في مدة المحن والبأس. 
٩- أي رأيت كل شيئ وكل أمور على حقيقتها. ١٠- الفاء في 'فعرفت' للتفريع. و'ما' مصدرية مفعول مطلق أوردته لتشبيه صحبتهم بصحبة الذئاب مع الشياه 
١١- بين 'السعادة' و'العادة' تحسين لفظي 'الجناس'، والسر هو والسر هو 'منحة في محنة' كما لا يخفى'منحة في محنة' كما لا يخفى

سرٌّ به تحلو دموعُ بلاء

ملامح أدب السُّجُون لدى أيمَن العَتُوم

الرحمة هي جوهر الأخلاق النبيلة. يحث الإسلام بشكل قوي على التمسك بها والالتزام بمبادئها، حيث تعتبر صفة وصف الله بها نفسه في نحو مائتي آية في القرآن الكريم، إضافة إلى ذكرها في بداية كل سورة بالبسملة. تتجلى رحمته في جميع جوانب الحياة، حيث يعبر قوله العلي القدير: "ورحمتي وسعت كل شيء" عن عظمة وعمق هذه الرحمة. كيف يمكن للإنسان أن يتحلى بهذه الرحمة العظيمة من الخالق؟ طبعا، لا يتحلى بالرحمة إلا من يرحم الآخرين، وذلك مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّاحمون يرحمهمُ الرَّحمنُ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السَّماء"، وقوله: "من لا يَرحم لا يُرحم". فرحمتنا تجاه الآخرين هو المفتاح لنزول رحمة الله علينا. 
فعلينا الالتزام بالرأفة والعطف والإحسان، وتعزيز العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وتأكيد مبدأ الأخوّة بينهم، ومد يد العون حين يقع الإنسان في المآزق والملمات، بالإضافة إلى التعامل برفق وليونة مع كافة الكائنات – سواء كانت حيوانات أو بشرا، الأمر الذي يتمكن الإنسان من خلاله زرع بذور السلامة والسكينة والمحبة والمودة في العالم. وكذلك الأخوة العامة الشاملة باعتبار كل إنسان إنسانا ورعاية حقوقهم حقوقا بدون التفضيل بين اللون والنسب والدين والدولة - مما يسهل تطبيق المعيشة السلمة المريحة في العالم. 
لكن من المتأسف جدا، ما يجري في أرض فلسطين المقدسة من قتل الأبرياء العزل حتى الأطفال والنساء من خلال مجازر وحشية وإبادة عنصرية. وتنادي تربتها بأعلى صوت انتباه الأمم المتحدة ومساعدات العالم. 
هنا تحظى جمهورية الهند بمكانة مرموقة كنموذج للعالم، حيث تبرز بصمتها الفريدة "الوحدة في التنوع" من خلال التعايش السلمي والأخوة والصداقة والاطمئنان، على الرغم من تنوع الأديان والثقافات. 
فالحل الوحيد الفعّال للقضايا التي تؤرق العالم هو أن تتسم الدولة ومواطنوها بصفة الرحمة، مما يشكل الأساس لحياة مستقرة ومريحة. نتمنى للجميع حياة طيبة وسمحة.

كلمة المفتي -١

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية: عرض ونقد

الاستيقاظ في الصباح مبكرا يمثل استثمارًا في جودة الإنسان وقدرته على تحقيق الإنجاز والحصول على يومٍ أكثر إنتاجية وحيوية من خلال تحسين الصحة العقلية والبدنية وزيادة النشاط والتركيز، حفّز النبي صلى الله عليه وسلم عليه وطلب البركة في وقته، حيث دعا "اللهم بارك لأمتي في بكورها" لما فيه من منافع وفوائد عديدة. فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، يقول بعض السلف: "يومك مثل جملك، إن أمسكت أوله تبعك آخره"، أي إذا حفظتَ أول اليوم فستكون البقية&nbsp; محفوظة، وإلا فتأثر سلبا.وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختار هذا الوقت الخالي من الضجيج لإرسال الجيوش،لأن الدماغ يكون في أشدّ حالات اليقظة والتركيز في وقت الهدوء والهواء النقي، مما يلعب دورا في اتخاذ القرارات والتفكير بصورة أفضل. 

وهذا الوقت أيضا وقت تقسيم أرزاق الخلق. فمن أنفق البكور في العبادات والخيرات بنشاط، فسينال البركة والرخاء في الحياة والمعيشة والطعام والأسرة. ولذا عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة مضطجعة صباحا فقال: "يا بنية، قومي اشهدي رزق ربك، ولا تكوني من الغافلين؛ فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس". 

وكذلك يجب النوم بعد العشاء -إذا لم تشغلك ضرورة كالتعلم- مباشرة بدون السمر واللغو ، ولا يكون نمط حياتنا مثل الكلب، يحيي الليل بالترافه واللعب، ويميت النهار دون صلاة وعبادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شدد الإنكار عليها بالإضافة إلى جلب التوتر والاضطراب والتجاعيد وعدم الانتعاش في حياة صحية. 

فيكون هذا التنظيم في النوم والاستيقاظ حلا ناجحا للشكاية الرئيسية التي يرفعها أغلب الناس اليوم من 'عدم توفر الوقت الكافي'. كيف يكون هذا معقولا وكل واحد منا لديه وقت نفس الوقت الذي لدى الآخرين؟. فالمشكلة ليست للوقت، بل في إنفاقه واستغلاله، فبعض الناس يخططونه ويحددون الأهداف والقوائم ثم يستخدمونه بشكل فعال بينما الآخرون الذين ليس لديهم خطط، يقضونه بالملل واللغو، ثم يشكون ضيق الوقت وضغطه. انظروا إلى حياة الأشخاص الناجحين في مختلف المجالات، تجدون أنهم حازوها فقط من خلال جهودهم الجبارة باستعمال الوقت مع أحق الاعتبار. 

 فإذن إذا لم تشتغل في الخير، نم فورا واستيقظ مبكرا ثم اقرأ القليل من القرآن وارفع الأيادي إلى الله ثم اقض ساعاتك حسب خطط جياشة. فإذا نظمت يومك هكذا، ستتورد الحياة وتعزز نوعيتها وروتنها الصحي وأنشطة الدماغ، وضربات القلب ودرجة حرارة الجسم خلال الدورة الثابتة في مواعيد النوم والاستيقاظ. وأيضا ستجد أوقاتا إضافية بعد قضاء شؤونك كلها، فتشعر بالراحة والحلاوة والسكينة في الحياة. بارك الله في أوقاتنا.

كلمة المفتي -٢

تُعتبر هذه القراءة من تطبيقات علم الربط بين الديانة والتاريخ، وخصوصًا أنَّ سنوات المدينة تمثِّل جوهر القراءة الاستدلاليّة، وهي الأصل الجامع الذي تتفرَّع عنه أصولُ فقه التحوّلات. 
	من عادة العرب التأريخُ بالحوادث، فمن ذلك: تأريخُهم بوفاة لؤي بــ(حادثة الفيل)، وبــ(انهيار سَدِّ مأرب)، وهكذا، والميزةُ الملحوظة في قراءتنا هذه أنَّ التأريخ بالحوادث في سَنوات المدينة استلّهم العنوان والمحتوى والمغزى من تفاعل الحوادث مع نصوص الوحي.
وشاهد القراءة التَّحوُّليَّة هنا ضبَط مفاصل التحوُّل، وفواصل التمرحل في العمل النبوي المدني، والمشروع الناجز عبر هذه السَّنوات المباركة من خلال التعريف العام بتأريخ السَّنوات المدنية، وارتباطِها بفاعليّة الوحي، والمرجعيّة النبويّة الرسوليّة. 
وقد عايشتُ السِّيرةَ النبويّة قراءةً ودراسةً وشوقاً وولعاً لسنوات ممتدّة، وكلما تجدّد لي -ويكاد يكون هذا شبه يومي- الورودُ إلى هذه المائدة النبوية المصطفوية تجدّدت المعاني، وعبر هذه المقالة سأحاول معالجةَ رُزْنامَة السَّنوات، أو أجِندَة سنوات المدينة التي عاشها النبيُ ﷺ، وتنفَّس فيها الزمان ببُروز طَلعتِه، وما كان من آثار دعوته في المدينة، صلواتُ الله وسلامه عليه. 
من زاوية تحوُّليّة: القراءة التحوُّليّة قراءةٌ متعمّقةٌ تستدعي النظر في البُعدين: الجزئيّ والكلّي، والجانبِ المطلق والنسبيّ، وتتناول العالم المشاهد، وكذلك الغيبي، وتقف على أسرار التجاذُب في هذا الخلق، وأقدار الحق الجارية السارية فيه، ولعلَّ هذه المقالة تنطوي على دعوةٍ مفتوحةٍ لإعادة صياغة بعض الكتابات في جانب السِّيرة النبوية خصوصًا، والعلوم النبويّة عمومًا على قاعدة التأطير الزماني، بمعنى: أنَّ المحب للنبي ﷺ يتأمل القراءة في يوميّات الحبيب ﷺ، وكيف كان الزمان اليومي لحياة النُّبوة في أطوارها وفي أعمالها؟ وكذلك يتعشّق المحبُّ للنبي ﷺ أن ينظر في وظائف أوقات النبوة على صعيد الليلة واليوم، وعلى صعيد الأسبوع والشهر، وعلى صعيد الموسم والفصل والسَّنة، فكيف إذا جئنا إلى ترتيبٍ عامٍّ لسَنوات الدعوة المحمدية سواء في أيام مكة أو في أيام المدينة، ولقد استوقفتني التسميةُ المتداولة عند العلماء قبل التأريخ للهجرة والتي من خلالها تمَّ صياغةُ مَعالم الجهد النبوي، وتشابكُ الأمر الرباني في الحياة الفعلية للنبي ﷺ، ومباشرتُه لإخراج الأمة المسلمة كما وصفها الله في القرآن: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾ [آل عمران:110]. 
فإخراج الأمة المسلمة هو المعنى الرئيس في حقل النهضة المعاصرة اليوم، كيف لنا أن نساهم في إخراج الأمة المسلمة من جديد؟ وهذا التعبير القرآني دقيقٌ وأنيقٌ، وفي قراءتنا هذه التحوّليّة لسنوات المدينة نجد على الترتيب: أنَّ السَّنة الأولى للهجرة تُسمَّى بسنة (الإذن)، والسنةَ الثانية بسنة (القتال)، والسنةَ الثالثة بسنة (التمحيص)، والسنةَ الرابعة بسنة (الترفئة)، والخامسةَ بسنة (الزلزلة)، والسادسةَ بسنة (الاستئناس)، والسابعةَ بسنة (الاستغلاب)، والثامنةَ بسنة (الاستواء)، والتاسعةَ بسنة (البراءة)، والعاشرةَ بسنة (الوداع)، ولاشكَّ أنّ لهذه التسميات نوعَ مناسبةٍ ووجهَ مكاسبةٍ مرتبطةٍ بالأوامر الإلهية والأحداث الفعلية التي وقعتْ في تلك السَّنوات، فكانتْ عنوانَ السَّنة. 
ويمكن لنا أن نعالج عبر هذه المقالة تسميةَ هذه السنوات من حيث تفصيلُها، ثم ننظر في المشهد الصاعد على يد فتيل السواعد الذين انتهضوا مع النبي ﷺ؛ ليؤسِّسوا لنا هذه المَعلمة والمثابة التي لا نزال اليوم نعيش في خيرها وبركتها ونورها وظِلّها، بل ونستفتح بهُداها، ونستملح ذكراها. 
السنة الأولى هي سنة (الإذن)، وهي التي برَز فيها الخطابُ من حضرة الحق: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ﴾ ]الحج:39[، ونجد أنها سنةٌ حملتْ إذنَ الهجرة، وما كان من مفارقات مع هذه الهجرة من بيئة مكة إلى بيئة المدينة، فبيئة مكة التجارية الدبلوماسية، البيئة التي لها مزاجٌ وطبيعةٌ خاصَّةٌ في تكوين علاقتها هيكلتها ونشاطها ودورها، لا أقول على مستوى الجزيرة العربية فحسب بل حتى على مستوى الواقع العالمي عبر نشاطها في الإيلاف وغير ذلك، ثم موقعها الديني في شعيرة الحج والكعبة التي بناها نبي الله إبراهيم عليه السلام، وما وقع من شواهد وآيات في هذا الإقليم، ثم ما كان من بيئة المدينة الأقرب إلى نمط الزراعة والصناعة، وتحمل مكونات دينية متعددة وهوية اجتماعية مختلفة عن طبيعة مكة، كلُّ هذا كان مظهرا من مظاهر الإذن، حتى إنَّ النبي ﷺ عبَّر في دخوله من منازل بني عمرو بن عوف إلى حيث وصل مكان المسجد النبوي وهو للخزرج، قال: «إنّما أُمرتُ بقريةٍ تأكل القُرَى» 

(١)

، لذلك حتى العلماء يقولون إذا كانت مكة أم القرى فالمدينة تسمّى آكلة القرى، والسنةُ هذه حملت جملةً من الأذونات الإلهية للنبي ﷺ عبَّرت عنها الآيةُ بأنّهم عاشوا ظلمًا ورَهقًا، فكان لهم النّصرُ والتمكين، والإذن بالقيام، والإذن بالقوام، والإذن بالمقام. 
وأمّا السنة الثانية سنة (الأمر بالقتال)، فهي عمليًّا كانت فيها بدايةُ الغزوات، وبالتحديد 12 من شهر صفر سنة اثنتين للهجرة، وهي أولُ غزوةٍ غزاها المصطفى كما عبَّر الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظم الغزوات: 
أوّل غزوة غزاها المصطفى ; ودّان فالأبواء أو ترادفا 

(٢)

 
وهي التي شهدت كذلك غزوةَ بدر يومَ البطشة ويوم الفرقان، وحفلت بسرايا متعددة ومتنوعة لمهمات واسعة، وكذلك كان فيها عددٌ من المعاهدات. 
والسنة الثالثة سنة (التمحيص) التي كانت فيها غزوة أُحد، وأُحد كان فيها أولُ ظهور عملي للنفاق، وهذا كان فيه تمحيصٌ للبنية الداخلية للبيت المسلم، وفقد المسلمون سبعين من الصحابة شهداء، غير الآلام التي تعرضوا لها والأوجاع، وما كان من أذى للنبي ﷺ، ومردُّ ذلك كلِّه إلى مرجعية القيادة النبوية في الأمّة، ومرجعية النبي ﷺ في قرابته وأصحابه، وفي مهاجريه وأنصاره، والله سبحانه وتعالى كما جعل للعالم امتحانات في عقولهم عبَّر في بعض الآيات عن امتحانات القلوب، فقال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ﴾ ]الحجرات:3[، فكانت هذه سنة الامتحان للبواطن والدواخل. 
أمّا السنة الرابعة فسُمّيت بسنة (الترفئة) من الرفأ، ومعنى هذه الكلمة كقولنا: أرفأ بين القوم، أي: أصلح بينهم

(٣)




، وهي السنة التي شهدت جلاء اليهود واستقرار الداخل النبوي في المدينة، حيث تمَّ جمعُ شمله، وترتيبُ أوصاله، فالمكوّن المسلم والمكوّن السكاني المدني عاش حالة استقرار في هذا العام عام الترفئة. 
أمّا السنة الخامسة فتُسمّى بسنة (الزلزلة)، كيف لها وهي عاشت في فصل الشتاء على مساحة المدينة أجمع حالة تحزّبَ فيها الأحزاب، عشرة آلاف ما بين يهود وقبائل عربية محيطة مع قريش، كلهم أحاطوا بالمدينة إحاطةَ السِّوار بالمعِصم، وجاءت سورة كاملة تعبِّر عن الأوصاف؛ وصف القلوب، وتوسع الظنون، ﴿إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠﴾ ]الأحزاب:10[، فكانت سنة فاصلة، حتى تعتبر في سنوات المدينة أنّها سنة برزخية. 
ثم جاءت السنة السادسة سنة (الاستئناس)، حيث عبَّر النبي ﷺ بعد الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا»

(٤)



 ، وكان فيها صلح الحديبية، وهذا الصلح يحتاج إلى هذه اللحظة إلى دراسة معمّقة، لنجد أعداد وأوفاد ممن دخلوا بالإسلام من أهل المدينة من القبائل وحتى من قريش، لأن المناخ العام الذي هدأت فيه المفاصلات والمُباغتات والمهاجمات مكّن المجال؛ لأن تتخير الناس مواقفها، وتحدّد مساراتها. 
وأما السنة السابعة سنة (الاستغلاب)، وكان علامة الاستغلاب في هذه السنة غزوة خيبر، والتي كان لها أبعاد متعددة في التعامل مع المكوّن اليهودي، الذي حاول أن يأدْ الرسالة في مهدها، بل وفي انطلاقة دعوتها عند الهجرة، وعبر سنوات والنبيّ ﷺ يجلو منهم، ويحكم في من خرج منهم حتى اجتمعوا في خيبر، وكان وصول النبيﷺ إلى خيبر مقدمةً لعام الوفود ومجيء القبائل المتنوعة إلى المدينة، بل ومراسلة النبي ﷺ لحكام وقادة العالم، حتى إنه في بعض الأخبار في يوم واحد في مطلع محرم للسابع للهجرة أرسل ﷺ سبعَ رسائل إلى سبعةٍ من الملوك والحكام، وهذا يشير إلى أنها سنةٌ أخذ فيها المد النبوي يتسع، ويملأ العالم على مستوى الحضور، وعلى مستوى الخطاب. 
ثم جاءت السنة الثامنة وهي سنة (الاستواء)، لمّا كان الكرم الإلهي للفتح الكبير والمبين لمكّة، وهنا كما تصلح الإشارة والإفادة استقرت الدعوةُ المحمدية، وكل الدواعي التي كانت للهجرة وللخروج إلى المدينة، وما كان من مقارعة قريش، والسنوات التي استنزفت الصحابة والعمل في منظومة الدعوة المحمدية قد استقر، وآل إلى أنّ النبي ﷺ أصبح الناس يفدون إلى الدين، ورايةُ الإسلام تُرفرف في الحرمين. 
ثم جاءت السنة التاسعة وهي سنة (البراءة)، وهنا البراءة مرتبطةٌ بسورة التوبة، ومطلع هذه السورة التي قال النبي ﷺ في موسم الحج يومَ أُرسل أبو بكر أميرا على المسلمين: «ما يبلغها إلا أنا أو أهل بيتي»

(٥)


، فأخرج ابن عمه سيدنا علي بن أبي طالب، ليقرأ على الناس في موسم الحج آيات البراءة، وآيات هذه السورة التي تميزت عن سور القرآن بخلوها من البسملة، وكذلك الخطاب الواضح لإعادة ترتيب أوراق الجزيرة العربية، وفرز أنماط الناس على قاعدة الإيمان والكفر، لا على أي فئة أو طبقة أو إثنية، إنما على صبغة إلهية. 
ثم جاءت السنة العاشرة سنة (الوداع)، وهي التي كان فيها حجة الوداع، وحجَّ فيها مع النبي ﷺ مائة وأربع وعشرين ألف من الصحابة، فكان كمال الدين، ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾ ]المائدة:3[، واكتمال نزول القرآن، حتى في تعبير الزمان قال ﷺ: «الزمانُ قد استدار كهيئته يومَ خلق الله السموات والأرض» 

(٦)


، فتمت الدورة الزمانية، وكانت بمثابة استكمال المسار الذي بدأ عبر هذه السنوات.
 ملحوظات١- أخرجه البخاري في «صحيحه» (1871). 
٢- «نظم الغزوات» لأحمد البدوي الشنقيطي (ص 16). 
٣- انظر: «لسان العرب» لابن منظور (1/87). 
٤- أخرجه البخاري في «صحيحه» (4110). 
٥- أخرجه أحمد في «مسنده» (13214). 
٦- أخرجه البخاري في «صحيحه» (3197).

سَنَواتُ المدينة.. قراءة تحوُّليَّة

هناك تفاوتٌ عظيمٌ بين الماضي والحاضر، توجد اليومَ فرَصٌ ومنصّات وصفحاتٌ لإبداء الآراء والأفكار من غير رويّة ولا معرفة ؛ فظروف العصر الجديد والأوضاع الاجتماعيّة فيه ووسائل الإعلام الحديثة لا تزال تُحرّضونَ النّاس أن يتدخّلوا ويتحدّثوا في الأمور، صحيحٌ أنّه من الأوصاف المحمودة أن يكون لدى واحدٍ منّا موقِفٌ مُحدّدٌ في كلّ قضية من القضايا؛ إلّا أنّه لا يعنى بذلك مشاركته في كلّ أحداثٍ تجرى حوله ولا حضوره في كلّ مجالس الناس؛ فهو يقتلُ أوقاته من غير جدوى، ويُسفر عن كلام غير لائق، وهل ترى أنّه يمكن لك أن تُفهّمَ كلّ أحدٍ جميع الأشياء؟ حاشَا وكلّا ؛ فإنّ العقول متفاوتة غالبًا، ومتباينة أحيانًا، وأغلبهم يدّعون أنّ الحقّ لديهم، قلّما يوجد مَن يبحث عن حقٍّ وصوابٍ، إذا أدركوا الحّق اعترفوا به وسكتوا عن الكلام.
 
منذ زمنٍ بعيد تدور على ألسنة النّاس مناظرات ومحادثات في شتى الموضوعات، وهل هناك من ترك كلامه وأفكاره من إثر هذه المحاورات ؟ ينبغي أن نعرف أن وجهات كلّ أحدٍ هي دائمًا أحبّ إلى أنفسهم.
 
هذا، وأغلب المنشورات في وسائل الإعلام والتعليقات عليها لا طائل فيها، وهي ممّا تبذر الشقاق والخلاف بين أفراد المجتمع 
، كما أنّها تؤدّي أخيرًا إلى خصومات شخصيّة، وقد قال سيّدنَا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم : "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"، وقال أيضًا : مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه، ويُنبّه ﷺ أيضًا : "المسلمُ من سلم الناس من لسانه ويده".
 
ومعروفٌ أنّ لحظات عاطفية وأحايين إحساسيّة لا يصدر عنها الكلام السديد والخلق الطيب، فتظلّ الجراحة التي أصيب بها إنسانٌ بسبب غيره لا تندمل إلى مدّة طويلة، حتّى يندم المرءُ على فعله بعد أمد.
 
وهذا لا يعني أنّنا لا نقاوم من يأتي بأفاعيل خبيثة وأعمال السوء وبافتراء ظاهر؛ فإنه يجب المواجهة في حينها بما يلزم فعله، وقد ورد في الحديث النبويّ : عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! علّمني عملا يدخلني الجنة، قال: "إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، اعتق النسمة، وفك الرقبة، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكف لسانك إلا عن خير".
 
ولا يدل الصّمت على جهل الصامت ولا على بطلان حانبه، فلا يخسر أبدًا من تعزّم أن لا يرد على من سبّه ولا من قابله بكلمات مستنكرة، رحم الله أمير المؤمنين سيّدنا عمر بن الخطاب حيث قال : "ما ندمتُ على سكوتي مرّةً، لكنّني ندمتُ على الكلام مراراً"، وقد روي عن التابع الجليل شفيّ بن ماتع الأصبحي : "من كثر كلامُه كثُرتْ خطاياه"، فالسكوت ربّما لايعطينا صديقًا إلّا أنّه لا يأتي لنا بعدُوٍّ ولا خصمٍ.
 
فأقول لكم إخوتي وأخواتي : نقضي أوقاتنا في أعمال نافعة ونتباعد عما لا فائدة فيه ؛ من أجل سلامة المجتمع ولبناء المستقبل الزاهر، ونحن نعرفُ أنّنا سوف نُحاسَب على كلّ وقتٍ نعيشه في هذه الدّنيا ؛ فعلينا أن نسير في طريق الخير والصلاح ونتجنّب طريق الفجّار والأشرار.

كلمة المفتي -٣

فضيلة الشيخ أبوبكر أحمد، مفتي الديار الهندية، شخصية عظيمة مثالية، وعالمٌ فقيه وداعية كبير في الهند. وقد نال توفيقًا كبيرًا لإنتاج جيل جديد مهذّبٍ يعلم نبضات العصر؛ فهو المحرك الفعّال وراء الثورة العلمية والاجتماعية في ولاية كيرالا.
إنّه ولد بقرية كاندابورام في منطقة مليبار بولاية كيرالا – الهند في 22 من مايو 1939م، وتعلم العلوم على أيدي كبار العلماء البارزين والمشايخ العظام مثل العلامة الشيخ زين الدين علي حسن المخدومي، ثم التحق بجامعة الباقيات الصالحات بويلور ولاية تاملنادو؛ لاستكمال مسيرته العلمية وللدراسات العليا، وتخرّج منها حاصلا على الشهادة للدعوة والإفتاء والتدريس في كل فن من فنون العلوم الاسلامية، وحصل على الإجازات في الأحاديث النبوية وسائر العلوم من كبار العلماء البارزين من داخل الهند وخارجها، مثل فضيلة الشيخ أبو الفيض محمد ياسين الفاداني المكي - رحمه الله تعالى، خادم العلم بدار العلوم بمكة المكرمة، المتوفّى 5 من محرم الحرام سنة 1411 هـ ومثل فضيلة الشيخ أحمد مشهور بن طه بن علي الحداد وغيرهما. 
والشيخ أبوبكر لقد ذاع صيته داخل الهند وخارجها بالكتابة والخطابة، كما اشتهر بخدماته الجليلة في مجال الدعوة والإرشاد والدفاع عن الإسلام والمسلمين وبناء المساجد والمؤسسات الخيرية لإنقاذ الأمة الإسلامية وأجيالها من ظلمات الجهل والضلالة؛ فجدير بالقول أن فضيلته قام بنشاطات علمية في الولايات الهندية، على وجه الخصوص في ولاية كيرالا، ولا يختلف اثنان أن هذه النشاطات غيّرت وجه ولاية كيرالا، وفي مقدمة هذه النشاطات أنه لا يزال يقوم بتدريس صحيح البخاري أكثر من خمسين سنة.
 <figure><img src=https://arabic-api.katib.in/uploads/ap-usthad-dubai.jpeg alt=ap-usthad-dubai.jpeg/></figure> 
محاضرة صحيح البخاري لفضيلة الشيخ ابوبكر احمد ليست عبارة عن قراءة الحديث ولكنها حديقة علمية تظهر فيها ازهار متنوعة من الحلول لشبهات الملاحدة والمبتدعة وبيان المذاهب الفقهية وحكمة تكرار الحديث والجمع بين الاحاديث الموهمة للتعارض وإثبات عقيدة أهل السنة والجماعة، بالإضافة إلى الإجابات المقنعة عن استفسارات المشاركين من الطلبة عقيدة وفقها وتصوفا ونحوا وصرفا وبلاغة وإعجازا وما إلى ذلك .... قلما نجد مثل هذه المحاضرة في العصر الراهن عددا وحضورا من جميع الولايات الهندية، وربما يشارك فيها الضيوف والعلماء الكبار من البلاد المختلفة. وتجدر بالإشارة أن هذه المحاضرة تجري صباح كل يوم بصفة مستمرة رغم أن حياة فضيلة الشيخ مكتظة بنشاطات متنوعة. 
وتلبية لرغبة العلماء والدارسين والباحثين، قام فضيلته بتأليف شرح مبسوط لصحيح البخاري في مجلّدات ضخمة، يحتوي على مزايا كثيرة، ويتناول المشكلات العصرية. وعن قريب سيصدر - إن شاء الله تعالى. 
وفي كل سنة تعقد جامعة مركز الثقافة السنية حفلة ختم البخاري بمشاركة آلاف من العلماء والشخصيات المهمة من دول مختلفة، وتجري حفلة ختم البخاري في العام الجاري في ٣ من فبراير ٢٠٢٤م في رحاب الجامعة. <figure><img src=https://arabic-api.katib.in/uploads/markaz-sheikh-abubacker.jpeg alt=markaz-sheikh-abubacker.jpeg/></figure> 
وحفلة ختم البخاري ليست وليدة اليوم ولكنها عادة وسنة للعلماء القدامى حيث جرت العادة الحميدة أن يعقد الشيوخ والمحدثون مجالس ختمية، عند الانتهاء من سرد الصحيح أو تدريسه وإقرائه وشرحه، بحيث يكون موضوع المجلس شرح آخر حديث من أحاديث الصحيح، ومن أشهر أصحاب مجالس الإملاء عندالقدماء نذكر الحافظ ابن حجر الذي أملى أكثر من ألف مجلس، وقبل شيخه الحافظ العراقي ت 762 هـ الذي أملى أكثر من 4000 مجلس، وزين الدين بن عبد الرحيم الحسني العراقي المصري وبعده ولي الدين أبو الفضل أحمد بن عبد الرحيم العراقي المتوفى سنة 828 هـ الذي أملى أكثر من ستمائة مجلس ، والحافظ السيوطي أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت 919 هـ الذي عقد أكثر من مائة مجلس ثم الحافظ شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمان السخاوي ت 902 هـ الذي بلغت مجالسه أكثر من ستمائة مجلس كما ذكر هو نفسه والحافظ ابن الصلاح الذي سار على سننن شيوخه في ذلك. 
وقد جمعت أمالي المحدثين في كتب عرفت بكتب الأمالي والاملاء إذ كان من وظائف العلماء قديما خصوصا الحفاظ أهل الحديث، في يوم من أيام الأسبوع يوم الثلاثاء أو يوم الجمعة، وهو المستحب أن يكون في المسجد لشرفهما، وطريقهم فيه أن يكتب المستملى في أول القائمة هذا مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا في يوم كذا، يذكر التاريخ ثم يورد المملي بأسانيده أحاديث وآثارا، ثم يفسر غريبها ويورد من الفوائد المتعلقة بها بإسناد أو بدونه ما يختاره ويتيسر له، وقد كان هذا في الصدر الأول فاشيا كثيرا، ثم مات الحفاظ وقل الإملاء، وقد شرع الحافظ السيوطي في الإملاء بمصر سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وجدده بعد انقطاعه عشرين سنة. 

وأول ما نعرف من الختمات ما جاء فيفتح الباري لابن حجر العسقلاني أنه ختم البخاري واحتفل بذلك فيكون أقدم من نعلم – إلى الآن – ممن ختم البخاري هو الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 752 هـ ولا نعرف أن ختمته هذه دونت وكتبت. غير أن أول ختمة مدونة ومطبوعة نعرفها وتوجد بين أيدينا، هي ختمة الإمام القسطلاني شارح البخاري والمسماة تحفة السامع والقارئ بختم صحيح البخاري كما نجد في ترجمة الحافظ أبي الخير السخاوي أن له عدة ختمات إحداهما في صحيح البخاري سماها عمدة القارئ والسامع في ختم الصحيح الجامع وله غيرها حول صحيح مسلم والشفا للقاضي عياض، نضيف الي هذه القائمة حفلة فضيلة الشيخ أبي بكر. <figure><img src=https://arabic-api.katib.in/uploads/kathmul-bukhari.jpeg alt=kathmul-bukhari.jpeg/></figure> 
 ولمزية هذا الصحيح العظيمة وشهرته بين الخاصة والعامة يعتبر غالبية أهل السنة في العالم أن كتاب «صحيح البخاري»، هو أدق كتاب بعد القران، وقد أطلق الناس علي البخاري اسم أمير المؤمنين في الحديث، وقد بدأ البخاري في وضع مؤلفه وهو في عمر ستة عشر عاما على قول المؤرخين واستغرق تأليفه 22 عاما كاملة وفاق صحيح البخاري على جميع شروحه لعدة مزاياه، ومنها تعتبر صحيح البخاري من أهم المصادر الشرعية للإسلام والمسلمين، حيث يشمل على الأحاديث التي يعتبرها كثيرون من أشهر الأحاديث النبوية الصحيحة، ويحتوي صحيح البخاري على أحاديث نبوية صحيحة تشرح وتفسر كثيرًا من الأمور الدينية التي تهم المسلمين مثل الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج، الجهاد، وغيرها، ويعتبر أيضًا من المراجع الموثوقة في الدراسات الإسلامية والتاريخية، ويعتمد عليه العلماء والباحثون في الدراسات والأبحاث المتعلقة بالإسلام، ويحتوي على أحاديث نبوية قد حفظت بواسطة سلسلة من النقل الشفوي، مما يجعلها موثوقة ومحفوظة من الخلط والتغيير. 
ويمثل صحيح البخاري قدوة مثالية للسلوك الإسلامي، حيث يحتوي على مجموعة من الأحاديث النبوية التي تدعو للتسامح والعدل والرحمة، وتساعد على فهم الدين الإسلامي بشكل أفضل وأكثر صحة، ويمكن استخدامه كمرجع لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفهم الحديث النبوي. 

انطلاقًا من هذه الخصائص والمزايا، يقوم فضيلة الشيخ أبوبكر أحمد بجهود جبارة في خدمة صحيح البخاري لدرجة أن فضيلته أبدى رغبته قائلا إن الله إذا وفق لي بدخول الجنة وسألني عما أشتهيه أجيب عنه بأني شديد الرغبة في تدريس صحيح البخاري، ورغم أنه مشغول جدا بالعمليات المختلفة ليل نهار لكن محاضرته لصحيح البخاري تجري بشكل مستمر ومتواصل.

جهود مضيئة لمفتي الهند لخدمة السنة النبوية

الحمد لله ربّ العالمين، أصلّي وأسلّم على المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فمعلومٌ أنّ عددًا كثيرًا من الناس في هذا العصر يتطلّعون إلى من أعلى منه مالًا وأكثر منه تبذيرًا، فيدْأبون في جعل حياتهم سعيدةً مُريحةً منعّمةً، ويجِدّونَ فيه عن ساقِهم وساعدِهم، ولا يعاتَبون على هذه الطّويّة طالما أنّ لديهم عملًا يكتسبون منه أموالهم ويُنفقونها في حوائجهم وأغراضهم. 

وقد أتاني في جامعة مركز الثقافة السّنّيّة رجلٌ متكدِّرٌ قبل عدّة شهور، طالبًا مني المساعدة المالية؛ ليتخلّص من الورطة التي وقع فيها، وهي أنّ البنك يُهدِّد بمصادرة بيته الذي بناه بنفسه بعد تحاملٍ شديدٍ وإعياء، والذي يسكن فيه هو وأسرته؛ لأنّ القرض الذي عليه للبنك لم يردّ إليه بعد، ربّما يكون هذا الرجل قد أخذ القرض من البنك لتحقيق بغيته بالإقامة مع عياله في مسكن. 

هذه واقعة من الوقائع التي تحدُث كثيرًا في المجتمع، التي تُحزننا إلى الغاية وقتَ سماعِها، ويأتي كلَّ يومٍ إلى رحاب جامعة مركز الثقافة عددٌ كبير من الناس، محتاجينَ إلى معاونة وإسعاف، وكنّا نحاول قدرَ المستطاع - وبالله التوفيق - معالجة مثل هذه المشاكل، بمثل توفير المياه والأدوات المنزلية والمهنية والطبيّة وبناء البيوت وغيرها. 

ولكن هناك طائفةٌ، الذين غطّى جشعُ الرّفاهية أعينَهم فيشترون الأدوات المنزلية العالية والهواتف الذكية باهظة الثّمن والسيّارات الفاخرة وأخذتْ منهم هذه الدّنيا الفانية مأخذًا كبيرًا، وكلُّ ذلك بالاعتماد على قرض البنوك وبتقاضي فوائدها، ويرون أنّ ذلك كلّه من المعفوّات، والعجبُ أنّ هذه الطائفة يزداد أعضاءها بشكل كبير. 

هذا أمرٌ لا بد من الاحتياط فيه والحذر، ومن الخطير جدًّا أن يكون في حياتنا اليومية مثقال ذرّة من الرّبا وفوائد البنوك، وقد عدّها الإسلام من الكبائر، وقال الله - جلّ وعلا - في مُحكمِ تنزلِه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وقد ورد في الحديث الشريف : عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ، وفي حديث آخر : عَنْ عبداللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً، وهناك أياتٌ أخرى وأحاديث تدلّ على فساد الرّبا وخطيرته. 

وقد يُرفع في هذه الوقفة سؤال : ما السبيل إلى تحقيق الأحلام والأهداف غير الرّبا وفائدة البنك؟ أقول لكم قرّائي الأعزّاء : إنّ الأمر المهمّ تنظيم الأمور، وذلك أن لا يتقدي المرء بمن هو أعلى منه في شيء من أمره، وبأن ينفق ماله حسب طاقته وقدرته، وينبغي التحرّز من الطموح والأماني، والتوقّي من الاستعجال الذميم، وإنّما تُحقّق الأهداف بالتمهّل والتدرّج. 

إضافةً إلى أنّه يجب على الآباء والأمهات تعليمُ أولادهم المعاملات المالية منذ صغرهم، وتوطينُ أفراد الأسرة إنفاق الأموال وفقًا للاحتياجات من دون إفراط ولا تفريط، ومع ذلك يلزم على كلّ واحد الدعاءُ والتضرّعُ إلى الله تبارك وتعالى؛ فإنّه أفضل سبيل للتيسير والفتح في كافّة الأمور.

كلمة المفتي - ٤

تعتبر جامعة مركز الثقافة السنية منبرا علميا يحتوي علي حدائق مزهرة عقيدة وفقها وأصولا وتصوفا وحديثا وتفسيرا وطريقة ومعرفة ودورا 
اجتماعيا وإداريا وحضاريا وتعبر عن جميع هذه النشاطات الكليات والمعاهد والمدارس التي تجري تحت قيادة هذه الجامعة المباركة .
 
ومن المشاريع الخيرية المتعددة والخدمات الإنسانية المتنوعة–التي تقوم بها والتي تختلف بها جامعة مركز الثقافة السنية عن سائر الجامعات الأخري فى العالم ، أنها تهتم بالعقيدة الصحيحة و تقرأ حوادث الساعة و نبضات العصر و أحداث العالم ، وتقوم بحلها في ضوء التراث الإسلامي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
 وقد لاقت قبولا واسعا لدى الشعب الهندي وبخاصة الإسلامي منه ويستفيد من هذه الجامعة أكثر من عشرة ملايين شباب فى أنحاء جمهورية الهند .
 
وتعتبر جامعة (مركز الثقافة السنية ) من أكبر مراكز التعليم الإسلامي والثقافي في الهند .
 
وخلال فترة وجيزة قد اكتسبت شهرة عالمية بحكمة أبنائها ومناهج تدريسها و بمشاركتها في إنتاج جيل جديد علميا وثقافيا ورقميا وحضاريا .
 
وبنظرة عالمية فقد جذبت قلوب العلماء والسادات و الأولياء والقادة من الهند وخارجها ، ولها شرف عظيم ومكانة كبيرة بين جميع أصحاب الديانات الهندية لنيلهم الحلول التامة لمشكلاتهم المختلفة من الجامعة عموما، ومن بانيها فضيلة الشيخ أبي بكر أحمد خصوصا، وقد اتسع نفعها فشمل المسلمين وغير المسلمين.
 
وتقوم حاليا بنهضة علمية بالمشاركة مع أفراد المجتمع الهندي في جميع ولايات الهندية علميا وثقافيا، وقد مست الجامعة جميع أطوار حياة الأمة الهندية بتقديم ما تحتاجه الأمة من البيوت و الآبار والمساجد والمدارس والمساعدات الإنسانية والمستشفيات والمخيمات الطبية والمدارس للمعاقين ودار الايتام ، ومن أجل ذللك أعربوا عن اعتقادهم بأن هذه الجامعة تحقق رجاءهم وأمنياتهم في السراء والضراء بفعالية مُحركة ومُتفاعلة مع المجتمع الهندي من هذه الجامعة.
 وقد وُضِعٓ حجر الأساس - بحمد الله - لهذه المشكإة العلمية في الثامن عشر من شهر أبريل عام 1978م في مدينة كاليكوت بولاية كيرلا – الهند بيد مباركة من السيد/ محمد علوي المالكي من بلاد مكة المكرمة ، وكان في بدايته عبارة عن دار للأيتام يشتمل علي خمسة وعشرين يتيما نظرا إلي حاجة الأمة ، فنزلت الجامعة وأبنائها 
 إلي المجتمع بمشروعها وشرحته لهم بالتفصيل ، فكانت إجابتهم مُشجعة و مُحفزة و جديرة بالذكر ، حيث انكبوا علي المركز و اصطفوا حول رواده ، وكانت هذه الخُطوة نقطة تحول في تاريخ هذه المنطقة ، ثم انتشر عطاؤه إلي سائر الولايات الهندية .
 وقد صنعت الجامعة ثورة علمية بإنشاء المعاهد والكليات والمشاريع الخيرية والإنسانية وأصبحت الآن قلعة منيعة للمسلمين الهنود للحفاظ علي تراثهم وثقافتهم ، وللاحتفاظ بحقوقهم ومصالحهم ، 
 
وبنظرة - لايختلف عليها إثنان - فإن المركز قد حصل علي نمو ملحوظ في دعوة الأمة إلي التمسك بهدي القرآن وسنة الحبيب المصطفي محمد صلي الله عليه وسلم .
 
وقد تطورت نشاطات جامعة المركز إلي إنشاء مدينة علمية كبيرة تؤتي أكلها كل حين و فاقت جميع الحدود ، و أخرجتها من دائرة الجامعة إلي مؤسسة إسلامية ضخمة بحصولها علي المعادلة في الشهادات والإجازات العلمية من الأزهر الشريف وغيرها من المعاهد الإسلامية العالمية ، وبا الإضافة إلي ذلك فإنها تقوم بتخطيط منظم للقيام بالنهضة الإسلامية بجميع أشكالها فنجد فى رحاب الجامعة – بالإضافة إلي المعاهد والمدارس – دار الأيتام للبنين والبنات ، ودار خاصة لكفالة الأطفال الأيتام والمساكين من ولاية كشمير ، ومشروع “كفالة الأيتام الصغار فى حجر أمهم” والأنشطة الاجتماعية والتربوية المتعددة كل هذه النشاطات وغيرها جعلت (جامعة المركز ) فريدة من نوعها فى شبة القارة الهندية ، و حاليا تحاول جاهدة فى مجال الإغاثة حيث توزع المساعدات المالية والمادية للمتضررين والمنكوبين والمستضعفين ، وأنشأت عشرات المشاريع الخيرية والإنسانية لرفع المعاناة عن الفقراء والمحتاجين.
وقد احتلفت الجامعة بمؤتمرها السنوي في السنوات الماضية وفي هذه السنة تحتفل بعيدها مع جلسة ( ختم صحيح البخاري) وتوزيع الشهادات للخريجين من الجامعة وأعلن فضيلة الشيخ ( أبو بكر أحمد ) مفتي الديار الهندية في المؤتمر الإعلامي والصحفي عن عقد جلسة "ختم صحيح البخاري" الذي يمثل ختم قراءة صحيح البخاري، وتكريم ( ٤٧٩ ) طالبًا في حفل توزيع الشهادات المقرر عقده في( ٣ فبراير ٢٠٢٤ ) . وسيحصل الطلاب الناجحون على شهادة "الثقافي" انتماءً إلى جامعة (مركز الثقافة السنية الإسلامية ) . وأضاف فضيلته قائلا إنه سيكون الحفل فرصة لتكريم الجهود الدراسية والعلمية التي بذلها الطلاب خلال سنوات دراستهم في مختلف كليات الجامعة، بما في ذلك كلية أصول الدين وكلية الشريعة وكلية اللغة العربية وكلية الدراسات الإسلامية.
ومن المتوقع حضور عدد من كبار الشخصيات في المؤتمر من داخل الهند وخارجها ، من العلماء البارزين والشخصيات الإسلامية الهامة والمؤثرة في العالم الإسلامي ، ليشهدوا هذا الحدث الرفيع الذي يبرز دور جامعة مركز الثقافة السنية الإسلامية في ترسيخ قيم التعليم والثقافة الإسلامية. والله الموفق و المستعان .

جامعة مركز الثقافة السنية حديقة علمية كيرالا -الهند

مقدمة
 
ليست الأمور غالبًا على ما تبدو عليه، فما تراه أعيننا لا يمثل إلا القشرة الخارجية التي تخفي تحتها عالمًا آخر، في أوقات كثيرة، لا يمت بصلة إلى العالم الظاهري، وكأن القشرة التي تكونتْ وقستْ إنما تأثرتْ بعوامل التعرية والزمن، يحاول بعض ممن تكونت حولهم أن يتحرروا منها ويتنفسوا الهواء الطبيعي، بينما يجدها بعضهم فرصة لمزيد من الهروب من واقع لا يحتملونه، فيعملون على تقوية القشرة التي تعزلهم عن العالم الحقيقي ويخفون خلفها آلامهم ومخاوفهم ودموعهم، لا يدركون أن خوفهم من المواجهة هو سبب تعاظم معاناتهم، وكنوع من إرضاء الذات أو إسكات العقل وتأنيب الضمير يبحثون عن شماعة ليعلقوا عليها ما آلوا إليه، مع أن الحل أسهل بكثير، فقط لو يقتنعون بمواجهة المشكلة والبحث عن جذورها. 
 
 
 
 
 
الفصل الأول 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
١
 
 
 
انتصف الليل وامتزج سكونه بأصوات الجنادب المزعجة ولا يزال يتقلب في فراشه في محاولات يائسة لاستدعاء النوم. وعندما فاض به الكيل أزاح الدثار بعيدًا بزفرة تتصاعد من صدره وهو يغادر السرير. وكما هي عادته إذا جافاه النوم- وما أكثر ما يحدث ذلك– قرأ في مصحفه تاركًا المجال أمام الكلمات الربانية أن تخفف ما يثقل صدره ويقض مضجعه ويسلبه راحة البال والنوم الهانئ. قلب في الصفحات واختار إحداها وبصوت خفيض امتزجت نبراته الحزينة بسكون الليل الطويل مع ترتيل آيات القرآن الحكيم. تجاوب جسده مع الأحرف التي توإلى انسيابها من بين شفتيه المرتعشتين، مضى بعض الوقت وهو على حاله، حتى توقف عن القراءة. أغمض عينيه للحظات، وعندما فتحهما مجددًا كانت سحابة من الأسى الممزوجة بالدموع تسبح في مقلتيه وتشوش عليه الرؤية، مسح دموعه براحة يديه وأعاد قراءة الآية نفسها التي توقف عندها مرات متتالية وكأنه عاجز عن تجاوزها أو الوقوف عندها. رددها لسانه بصوت أخذ يرتفع بوتيرة متسارعة طاردًا السكون الذي كان يلف الغرفة منذ لحظات قصيرة، بدا التوتر على صوته بينما يهتز جسده وينتفض كعصفور صغير يلفظ أنفاسه الأخيرة. 
"لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ" 
سكت أخيرًا، بينما ظل جسده يرتعش كورقة خريف يابسة، وقد تمردت دموعه وتماهت لتسطر قصة حزن عجزت السنون عن محوها من ذاكرته. وضع المصحف على الطاولة القريبة منه دافنًا وجهه بين يديه وهو يتمتم بصوت متقطع "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا". 
اهتزت كتفاه وعلا نحيبه، رفع رأسه وهو يتلفت حوله بوجلٍ كمن يبحث عن مخرج من دوامة الألم التي نشبت أنيابها الحادة بين تفاصيل روحه المتعبة، وعندما لم يجد غيرها منفذًا ينفس قليلًا عن البركان الذي يتأجج في أعماقه، فتح نافذة غرفته الوحيدة وملأ صدره بنسيم الليل البارد بشغفٍ كمن حُبس عنه الهواء لساعاتٍ طويلة، نظر نحو السماء باستنجاد وهو يضع يده على صدره وعلامات الألم تبدو واضحة على ملامحه المنقبضة، احتاج بعض الوقت لتتسلل السكينة إليه، ويستعيد قدرته على التنفس بانتظام. 
استند على إطار النافذة وعيناه تتأملان المدينة التي تستلقي بهدوء تحت نور القمر الخافت، فخلف النوافذ ذات الإضاءة الخافتة ينام الآخرون بطمأنينة، بينما لا يحلو للمارد المجروح في أعماقه أن يتمرد عليه إلا في المساء، وكأنه يستمد قوته وجبروته من سكون الليل الطويل. 
أوصد النافذة وألقى بجسده مجددًا على الأريكة، حدق في السقف الأبيض كمن يريد أن يستمد من بياضه الخافت بعض القوة لمواجهة الظلمة التي تتنفس في أعماقه: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا"! تسللت حروفها من عقله وتسلقت السقف، هنيهات حتى بدأت ترمي بظلالها عليه وعلى الأثاث القليل في الغرفة، ولم تكد تفعل حتى توشح السقف ثوبًا أسودًا زخرفت أطرافه بقطرات حمراء، زحفت القطرات ببطء سريع في كل الاتجاهات حتى أتت على السواد بحمرتها القانية، وعندما لم تجد مكانًا إضافيًا تلتهمه، واصلت طريقها نحو أرضية الغرفة، شعر بها تنزلق على جبينه، مسحها بطرف إصبعه فإذا هي دبقة دافئة، ذكرته بملمس يعرفه جيدًا ولا يذكره: "يا لله". سيطر عليه الرعب فحاول الهرب بعيدًا لكن قوة ما قيدت حركته، وأجبرته على الاستلقاء حيث هو لتلقي المزيد منها. أزالها بيديه من على وجهه وجسده بجنون، وكلما فعل تلقى المزيد، ألقى نظرة وجلة على المكان حوله فإذا بغرفته وقد تحولت إلى بركة حمراء توشك أن تغرقه فيها. 
"ساعدني!". استنجد بطيف رأه واقفًا خلف النافذة،، لم يحرك الأخيرة ساكنًا، بل راقبه بنظرات جامدة، وكأنه ينتظر أن تبتلعه البركة. بالفعل أوشك الدم أن يبتلعه كليًا، وشعر بحرارته تلهب رقبته، مد يده بيأس "ساعدني أرجوك!" تحرك الطيف من مكانه، فتح شباك النافذة الموارب، خاض في البركة الدامية بخطوات ثابتة واقترب منه، نظر إليه قليلًا وبدلًا من أن يحاول انتشاله أو مساعدته أمسك بياقة قميصه وأغرقه كليًا في الدم، وهو يتوسله بيأس: "أرجوك ساعدني!" 
وحين شعر بتحرر رقبته من القبضة القاتلة، فتح عينيه وهو يلهث متوسلًا الهواء أن يداعب رئتيه، التقت عيناه بعينين غائرتين حاك الزمن حولهما تجاعيد متعرجة. 
"أمي!".. قالها وهو يتشبث بيديها كطفل صغير. 
"كوابيس.. كوابيس!! ألا نهاية لهذا العذاب؟!".. قالتها وهي تربت عليه وتذهب لتحضر له كوب ماء. استرق النظر نحو النافذة فإذا بالطيف قد اختفى، كما يفعل دائمًا كلما دخلت أمه الغرفة. حتى غرفته عادت لسابق حالها، لم تمسها أي أيادٍ شيطانية. أسندته والدته وجلست إلى جانبه، ضمته إلى صدرها وهي تمسد رأسه بيديها النحيلتين وتقرأ عليه آية الكرسي. 
"لم أقتل أحدًا".. رددها بوهنٍ وهو ينتحب. 
"اسم الله عليك.. اسم الله عليك يا ولدي". 
"لم أقتل أحدًا".. 
"خلاص يا ابني يا حبيبي، لا تعذب نفسك". 
"تعبت يا أمي.. تعبت!". 
"لا حول ولا قوة إلا بالله". 
ساعدته على العودة إلى سريره، وناولته حبة الدواء، وهي تضيف: "أخبرتك مرارًا ألا تنسى أخذ دوائك. لكنك لا تسمع الكلام".. ومن ثم طبعت على جبينه قبلة مبتلة بالدموع وهي تهمس في أذنه: "نم الآن ولا تفكر في شيء، ما حدث قد حدث"! 
"أمي، أخبريني ما الذي حدث بالضبط، ليتني أتذكر؟!" 
"لم يحدث شيء، نم الآن ولا تفكر بشيء". 
غطته جيدًا وخرجت بعد أن أطفأت النور.. على الأقل تعلم أنه سينام الآن دون أي صراخ أو كوابيس. الرواية الفائزة بجائزة السرد اليمني (حَزَاوِي) 2022م

سمَّيتُها فاطمة - ١

بفخر وتألق تخرج في نفس اليوم 221 خريجًا من كلية المركز للطب كما تخرج 50 خريجا من كلية المركز للقانون، الواقعتين في مدينة المعرفة، كالكوت، الهند. أما 50 خريجا من كلية القانون ف31 طالبا و19 طالبة من كلية 'المركز' للقانون فتخرجوا في مجلس نقابة المحامين بولاية كيرالا الهندية. ويعكس هذا التزامَ المعهدِ بتعزيز المهنيين القانونيين المتميزين والأخلاقيين، تحت رئاسة مفتي الديار الهندية فضيلة الشيخ أبي بكر أحمد والمدير العام الدكتور محمد عبد الحكيم الأزهري الكاندي. 

ومن بين أولئك الخريجين 24 طالبا أكملوا دورة الشريعة الإسلامية لمدة خمس سنوات في الأكاديمية العالمية للبحوث في العلوم المتقدمة -WIRAS. وهذا التعليم المشترك يجعلهم قادرين على خدمة المجتمع بإتقان واعتزاز وترحّم. 

تنعكس في خِريجي كلية الحقوق أهميةُ دراسة القانون كركيزة أساسية في بناء مجتمع عادل ومتوازن. ويعتبرون نماذج حية للتفاني في فهم وتطبيق القوانين، حيث تُعزز دراستهم بالمعرفة العميقة بالأخلاقيات والقيم المجتمعية. 

في كلية الحقوق، يتلقى الطلاب التدريب اللازم لفهم العدالة وحقوق الإنسان، مما يمكّنهم من تحقيق التوازن بين القانون والعدالة في مختلف مجالات المجتمع. 
لذلك، تُعزى أهمية كلية الحقوق في تشكيل قادة المستقبل الذين يسهمون في تطوير القانون وتعزيز العدالة. وتجعل الكليةُ دائما طلابها محامين ومحاميات، يمتلكون ليس فقط فهمًا عميقًا للنظام القانوني، ولكن أيضًا قدرةً على تطبيق القانون بنزاهة وبصيرة فعّالة في بناء مجتمع يقوم على القيم والعدالة. 

تقدم مدينة المعرفة برامجَ متنوعة تتعدى مجال القانون، من الطب إلى الأعمال والإعداد للمعايير الدولية للمحاسبة. وترتكز جميع البرامج على قيم أخلاقية قوية، مما يضمن تخرج محترفين مهرة ومواطنين مسؤولين، في عالم يتطلع إلى العدالة والقيادة الأخلاقية. ويمثل خريجو مدينة المعرفة من شتى معاهدها المتميزة، أملاً كبيرا للهند خصوصاً والعالم أجمع عموماً. ويمكنهم تنوع وجهات نظرهم، جنبًا إلى جنب مع أسسهم الأخلاقية القوية، في تطوير المجتمع وخدمته. 

وكذلك بفخر وتألق، تخرج في نفس اليوم ٢٢١ طالبًا من كلية الطب اليوناني في مدينة المعرفة، كالكوت. وشهد حفل التخرج لحظات مميزة حيث تم تكريم الخريجين الذين أظهروا التزامًا عاليًا وتفوقًا أكاديميًا طوال فترة دراستهم. وقد ألحقت حفلةُ التخريج ريشاتِ ذهبٍ بتاريخ مدينة المعرفة تحت رئاسة مفتي الديار الهندية فضيلة الشيخ أبي بكر أحمد والمدير العام الدكتور عبد الحكيم الكاندي.
 تم تكريم الخريجين على رئاسة وزيرة الشؤون التعليمية العالية سعادة/ آر بندو. وقالت أثناء كلمة الافتتاح: "إن مثل هذه المشاريع التعليمية المحمودة من قِبل مدينة المعرفة ومركز الثقافة السنية تستحق حق التقدير والإطراء، وتستمر الحكومة على دعمها والمساندة لها، كما لا زالت في الفترات الأخيرة". وأضافت قائلة بأن التعليم هو الطريق الوحيد لمعالجة كثير من القضايا التي يواجهها العالم. ورأت أن المناسبة تعكس الإنجازات الرائعة للطلاب وأنها تعزز التزامهم بتقديم الرعاية الطبية المتميزة في مستقبلهم المهني. 

تعد اليونان من أقدم الحضارات في التاريخ، ولديها إرث طبي غني يعود لآلاف السنين. ويُعتبر الطب جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي اليوناني، حيث أسهمت فيه شخصيات بارزة مثل هيبوكرات، الذي يُعتبر "أبو الطب الحديث". وقد ازدهر طب اليونان بإسهامات العرب واكتشافاتهم الطبية الملحوظة على مر التاريخ، حتى تصبغ بصبغة الإسلام واكتسب اهتمام المسلمين في أرجاء العالم. وفي هذا السياق، يكتسي تخرج ٢٢١ طالبًا من كلية الطب في مدينة المعرفة، كالكوت، بأهمية خاصة، كما يؤكد اهتمام الهند بالطب العربي-اليوناني.
بدأ هذا الطب اليوناني الجديد في بغداد، ثم في آسيا الوسطى وانتشر في أنحاء العالم. وتولي الهند أهمية كبيرة لهذا النظام الطبي منذ أمد بعيد. وتقوم مدينة المعرفة بتطوير هذا النظام باستخدام المرافق الحديثة التي تمتزج مع الطب الحديث. وحالياً يتابع 300 طالب تعليمهم في كلية الطب في كلية الطب للمركز ويبدأون الآن برامج ما بعد التخرج والبحث بالجامعة. يكشف هذا النظام الطبي الذي يكون أكثر فائدة للناس عن اهتمام المركز بالحفاظ على صحتهم وعلاج الأمراض دون آثار جانبية وخاصة الأمراض المزمنة وأمراض نمط الحياة. ويقوم جامع الفتوح التابع لجامعة المركز بإجراء برامج توعية قصيرة وطبية بناءً على هذا النظام الطبي تحت إشراف أكاديمية الفتوح للأجانب والسكان المحليين. والعلاجات المعتمدة على هذا النظام معروفة في العالم الغربي والدول العربية. وتمتلك مدينة المعرفة مركزًا صحيًا عالي الجودة من فئة الخمس نجوم يُسمى 'تيغريس والي' (وادي دجلة) لتقديم هذه الفوائد الطبية للجمهور والأجانب.
 
يتميز برنامج الدراسة في كلية الطب بتوفير تعليم عالي الجودة وتدريب عملي مكثف، حيث يتم تزويد الطلاب بالمهارات اللازمة لتقديم الرعاية الصحية المتميزة. وتجمع الكلية بين التقنيات الحديثة والمفاهيم الطبية التقليدية، مما يمنح الطلاب تجربة شاملة.
 
يعكس تخرج هؤلاء الطلاب، الذين استوعبوا هذا التراث الطبي الغني، تفانيهم في خدمة المجتمع والعمل الطبي. يعزز تحقيقهم للنجاح المكانة الرفيعة لكلية الطب في مدينة المعرفة، كالكوت. وقد تخرج ٢٢١ طالبا وطالبة من أربع دفعات بعد أن أكملوا تخصصهم تحت جامعة كيرالا للطب واللجنة المركزية للنظام الهندي للطب.

مدينة المعرفة في لحظة تحقيقها للأهداف

الكتب المختارة - ١

				

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن حمل لواء دعوته إلى يوم الدين.
وبعد، 

مما لا يخفى أن القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى ومعجزة أشرف المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وقد تسابق كثير من العلماء والفصحاء والبلغاء في تأليف الكتب حول معجزات القرآن و معانيه البلاغية وألفاظه وتراكيبه وفصاحته اللغوية. ولكن لا نفهم معاني القرآن الكريم ولا يتحقق الوقوفُ على ما حواه من نُصح وإرشاد إلا بطريق الكشف والبيان، لما تدل عليه آيات القرآن. ولذلك، صنف العلماء تفاسيرَ عظيمة للقرآن الكريم. التفاسير لها أهمية كثيرة في هذا العصر الحديث الذي فسدت فيه ملكة البيان العربي وضاعت فيه خصائصُ العروبة حتى من سلائل العرب أنفسهم. فالتفسير هو المفتاح لهذه الكنوز والذخائر. كما ضرب الله جل ثناؤه المثلَ في قوله الكريم :{ وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ }(سورة النحل،الآية:٤٤).
وقد مست الحاجة إلى تشجيع طلبة علوم القرآن تحقيقا للمهارات في فن تفسير القرآن. فقام سماحة الشيخ محمد علي الصابوني بتصنيف كتابه الفريد 'التبيان في علوم القرآن'. يحتوي هذا الكتاب على أهمية فن تفسير القرآن وخلفيته التاريخية وعناصره الأساسية.
 
توطئةً إلى تفسير القرآن الكريم، يتضمن هذا الكتاب على أهمية علوم القرآن بما فيها أسباب النزول وحكم نزول الآيات وحكمة نزول القرآن مُفرّقا وجمع القرآن وأنواع التفاسير المختلفة للقرآن الكريم من المفسرين الأخيار وإعجاز القرآن الكريم ومعجزاته العلمية. وهذا الكتاب منقسم كما يلي:
 
الفصل الأول: علوم القرآن 
يحدد الشيخ الصابوني القرآن بالتعريف الذي اتفق عليه العلماء والأصوليون 'وهو كلام الله المعجز المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين بواسطة الأمين جبريل عليه السلام المكتوب في المصاحف المنقول إلينا بالتواتر المتعبد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة المختتم بسورة الناس. ويتحدث المصنف عن فضائل علوم القرآن بأدلة الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. ويشتمل هذا الفصل أيضا على توطئة إلى علم التفسير.
 
الفصل الثاني: أسباب النزول
يقول الشيخ الصابوني في هذا الفصل " إن معرفة أسباب النزول لها أثرٌ كبير في فهم معنى الآيات الكريمة ولهذا اعتنى كثير من العلماء بمعرفة أسباب النزول حتى أفرد له بالتصنيف جماعةٌ من العلماء، كان من أقدمهم علي بن المديني شيخ البخاري رحمه الله. ومن أشهر ما كتب في هذا الفن كتاب أسباب النزول للواحدي كما ألف فيه شيخ الإسلام ابن حجر، وألف فيه أيضا العلامة السيوطي كتابا حافلا عظيما سماه 'لباب النقول في أسباب النزول'. يناقش الكتاب في هذا الفصل عن فوائد معرفة أسباب النزول وأمثلتها على فوائد النزول.
 
الفصل الثالث: حكمة نزول القرآن مفرقا
صدر المؤلف في هذا الفصل بعنوان نزول القرآن الكريم. ويبين في هذا الفصل تنزيل القرآن وحكم نزوله منجما بما فيها ست حكم جليلة من عند الله الحكيم. وفي نهاية هذا الفصل يتحدث عن وحي الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وواسطته.
 
الفصل الرابع: جمع القرآن 
وقد جُمع القرآن منذ عهد النبوة نفسه. وقد كان لجمع القرآن في عصر النبوة مستويان معا:
أولا: الجمع في الصدور, عن طريق الحفظ والاستظهار
 ثانيا: الجمع في السطور, عن طريق الكتابة والنقش
و لاحقا، جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه. ثم قام بها الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. هذا الفصل يناقش عن ميزاتِ و خاصيات جمع أبي بكر وعثمان رضوان الله عليهما. وأيضا يشتمل على تساؤلات حول جمع القرآن.
 
الفصل الخامس: التفسير والمفسرون
هذا الفصل يُبين أهمية التفسير والفرق بين التفسير والتأويل. وينقسم التفسير حسب الاصطلاح العلمي الدقيق إلى ثلاثة أقسام.
أولا :التفسير بالرواية-وهذا الذي يسمى التفسير بالنقل أو التفسير بالمأثور.
وثانيا: التفسير بالدراية-وهذا الذي يسمى التفسير بالرأي.
وثالثا: التفسير بالإشارة-وهو الذي يسميه العلماء التفسيرَ الإشاري.
القسم الأول يحتوي على أمثلة من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي و من رواية الصحابة. والثاني على معنى التفسير بالرأي وأنواعه، وأقوال العلماء في جواز التفسير بالرأي. وأما الثالث فيحتوي على شروط لقبول التفسير الإشاري وأقوال العلماء فيه وأمثلة عليه. وفي نهاية هذا البحث يتحدث عن تفسير الشيعة والباطنية الخاطئتين.
 
الفصل السادس: المفسرون من التابعين
المفسرون من التابعين أكثر من الصحابة المفسرين؛ لأن الذين اشتهروا بالتفسير من الصحابة لا يزيدون على عشرة. أما التابعون فقد كثر فيهم المفسرون واشتهروا شهرة واسعة. وعنهم نقل المفسرون معظم الآراء. وقد انقسموا إلى طبقات ثلاث.
١.طبقة أهل مكة
٢.طبقة أهل المدينة
٣.طبقة أهل العراق
ويبين في هذا الفصل كل المفسرين من هذه الطبقات الثلاثة وتاريخهم موجزا.
 
الفصل السابع: إعجاز القرآن
يقول المصنف رحمه الله "لم يحدث في تاريخ البشرية أن أمة من الأمم اعتنت بكتابها السماوي، كما اعتنت هذه الأمة المحمدية، ولم نسمع عن كتاب مقدس نال من الحفظ والرعاية والإجلال والإكبار كما نالها هذا الكتاب المجيد، معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة، وحجته البالغة، ودعوته إلى الناس أجمعين. ولا عجب أن ينال القرآن العظيم هذه المنزلة الرفيعة، ويحتل من نفوس المسلمين تلك المكانة الجليلة، ذلك لأن الأحداث التي رافقت نزول هذا الكتاب المقدس تجعله يتبوأ مكان الصدارة بين جميع الكتب السماوية، ويفوق كل ما جاء به الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من هداية وإصلاح وتربية وتعليم وسمو وتشريع."
فإن كانت معجزة الأنبياء السابقين معجزات حسية فإن معجزة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم معجزة روحية عقلية، باقية على مَرِّ الزمان ليراها ذوو القلوب والبصائر.
أما إعجاز القرآن فمعناه: إثبات عجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله. كما قاله سبحانه وتعالى في قوله الكريم{ قُل لَّىِٕنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِمِثۡلِ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا یَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضࣲ ظَهِیرࣰا }.
 
وأيضا هذا الفصل يتضمن على شروط المعجزة الإلٰهية. وهي خمسة، كما نبّه عليها العلماء، فإن اختل منها شرط لا تكون معجزة. ويتبين عشرة وجوه من إعجاز القرآن الكريم وأمثلتها من التاريخ التي توضح أسلوبَ القرآن والتشريع الإلٰهي الكامل وأمثلتها من واقع الحياة والإخبار عن المغيبات.
 
الفصل الثامن: معجزات القرآن العلمية
يتضمن هذا الفصل على عدد من معجزات القرآن العلمي بما فيها وحدة الكون ونشأة الكون وتقسيم الذرة ونقص الأوكسجين والزوجية منبثة في كل شيء وأغشية الجنين و التلقيح بواسطة الرياح والحيوان المنوي واختلاف بصمات الإنسان. وأيضا يتأول العقيدة الإسلامية واليهودية والنصرانية. وفي نهاية هذا الفصل يتحدث عن تأثير القرآن في القلوب ودفع شبهة القول بالصرفة وأيضا أمثلة من حاول معارضة القرآن وفَشِل، والرد على شبهات إعجاز القرآن.
 
الفصل التاسع: نزول القرآن على سبعة أحرف والقراءات المشهورة
يناقش في هذا الفصل عن الاختلاف في قراءة القرآن. و أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف والحكم ورائها وبعض الشبهات الواردة على الموضوع والرد عليها. وفي نهاية هذا الفصل تتبين القراءات المشهورة والقراء السبعة.

وبعصارة القول، إن هذا الكتاب بأجمعه لفتَ أنظارَ القُراء إلى أهمية علوم القرآن وعلوم التفسير وأنواعها. وطُبع هذا الكتاب المكتوب بقلم الشيخ الفاضل محمد علي الصابوني، الذي كان أستاذا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة بمكتبة أشعات الإسلام ،نيو دلهي، الهند.

التبيان في علوم القرآن

إن علماء ولاية كيرالا لا يزالون يكتبون في مجال العلوم الإسلامية المزدهرة المختلفة. وقد تنوّرَتْ هذه الولاية بنور الإسلام، وأشرقت بهدي النبي صلى الله عليه وسلم من القرن النبوي الذي هو أفضل القرون. وبدأت التبادلات الثقافية والفكرية في ولاية كيرلا منذ العصر النبوي الشريف. والدعاة الأوائل قد حافظوا على علاقات جيدة مع الحكّام والسكّان الأصليين، وبنوا المساجد في جميع أنحاء البلاد، وابتكروا أساليب الدعوة المتميّزة. وللعلماء المخدومين دورٌ بارزٌ في ازدهار هذه الديار المليبارية بالعلوم والعرفان، هم الذين بدأوا النهضةَ العلميةَ في هذه الولاية، وجعلوا الناس مهتمّين بالدين وعلومه في القرن السادس عشر الميلادي، ويرجع إليهم فضلُ ارتفاع اسم فنّان إلى قائمة منابع العلوم المشهورة مثل القرطبة والأندلس والبغداد على الخريطة الفكرية الإسلامية العالمية.
 
بالإضافة إلى العلوم الإسلامية الأساسية، تم تعليم العلوم المختلفة مثل علم الفلك والكيمياء والرياضيات وما إلى ذلك في دروس المخدومين في الجامع الكبير الواقع في فنّان. لقد اجتذب هذا الجامع الكبير العديدَ من الطلاب، من داخل الهند وخارجها. وصار هذا الجامع منبعَ العلوم وملجأَ الطلاب، وقد ألف العلماء المخدوميون أنفسهم معظمَ الكتب التي تُدرَس في هذا الجامع وفروعه. لقد أُلّف في ذلك الوقت عديدٌ من الكتب المعتمَدة في علوم الفقه والعقيدة والتصوف وغير ذلك. ومنها كتاب ’فتح المعين‘ الذي كتبه الشيخ زين الدين المخدوم الثاني رحمه الله في الفقه الشافعي، ولا يزال هذا الكتاب يُدرَسُ في البلاد المختلفة وصار هذا الكتابُ رمزًا علميًّا بارِزًا لولاية كيرلا الهندية، ويدور المجال الفقهيُّ لمسلمي كيرلا حول هذا الكتاب. وإن فُقِدَتْ هذه النهضةُ العلميّة فترةً قليلةً من الزمن ولكن من المحمود حقا، دور العلماء المعاصرين في تطوير هذه النهضة العجيبة بالكتابة والتأليف وتأسيس المعاهد والمدارس والجهد في الدعوة الإسلامية.
 
كانت السيرة النبوية ذاتَ أهمّية كبيرةٍ في مجال العلوم الإسلامية منذ العصر الهجري الأول. يمكننا أن نرى العديد من الكتب، الكبيرةَ والصغيرةَ في السيرة النبوية. وفي البداية، كانت المباحث الرئيسية في السيرة هي المغازي المتعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك ظهرت الكتبُ الصحيحة الوثيقة التي وصفتْ بشكلٍ كاملٍ بعضَ جوانب حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأها المؤمنون بشغفٍ ومحبةٍ، واعتبروا منها وطبّقوا ما فيها إلى حياتهم اليومية. لأن الحياة النبوية حافلة بالمكارم والخيرات التي ينبغي أن نتأسى بها، كما قال ربنا تبارك وتعالى: (لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا)

 
نرى أن للسيرة النبوية أثرًا كبيرًا في نفوس المؤمنين من الناحية الاجتماعية، فالتاريخ هو العامل الأساسي الذي يُحدِّدُ هُويَّةَ المجتمع ويُثبتها في المجال العام. قصة الدعوة الإسلامية التي بدأها النبي، صلى الله عليه وسلم وحيدا فريدا، هي قصة خالدة، مضت هذه الدعوةُ عبرَ الأزمان المتعقّدة المليئة بالتحدّيات العديدة، ثم اضطرّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة من وطنه المحبوب إلى بلدةٍ بعيدةٍ بسبب عداوة الأعداء وظلمهم، وأخيرًا بنَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمّةً مثاليّةً ودولةً سياسيةً في المدينة المنوَّرة، ثم رجع إلى وطنه المحبوب الذي طُرِدَ منها منتصرا وفاتحا لها وراحما على أعدائه الذين ظلموه وقاتلوه، ولا شك أن قراءة هذه السيرة تُعطِي الحيوية والوثوقَ للمؤمنين، ويجعل باعثا لهم للتمسك بكتاب الله وهَدْيِ رسوله صلى الله عليه وسلم. إنَ قراءة السيرة حلٌّ للمشاكل التي يواجهُها المؤمنُ في كافة المجالات السياسة والاجتماعية والشخصية، وتساعد هذه القراءة لإيجاد الأحاسيس بالهُويّة الشخصية للمؤمن، كما تساعده لفهم تاريخ دينه الفاخر المزدهر بالوقائع والحوادث المختلفة. 
ومما يستحق الثناءَ والمجدَ قدومُ الشيخ عبد الرحمن الأريكلي رحمه الله رحمة واسعة إلى هذا المجال الذي لم يستكشفه علماء ولاية كيرالا كثيرًا، وقد ابتكر رحمه الله طريقا جديدا أنيقًا في كتابة الأشعار مختلفا تاما عن أساليب معاصريه. وكانت تلك الأشعار الثمينة نتيجةً لإتقانِه في الشعر العربي ومكانتِه العلمية ومعرفتِه بأدب اللغة العربية. 

يقول أبو الحسن علي الندوي: "وقد اطلعت على الديوان وتصفحت صفحاته وأبياته العربية فإذا هو ديوان شعر عربي يشير إلى أن صاحبه يتمتع بوجدان شعري جيد، وذوق أدبي رفيع، وله ملكة في النظم قوية، ويتمكن بها من نظم الأحداث والوقائع بكل سهولة وبلغة عربية رشيقة وأسلوب شعري جميل، وقد اعجبت بأبيات من قصيدته الطويلة حيث إنها مصوغة في قالب الشعرب العربي الخالص، وعالى غرار شعراء العربية الذين لا يفارقهم روح الموضوعية والهدف الأسمى في رحلتهم الشعرية في أي حال".
 الجواهر المخفية في السطور

كل سطر من 'الجوهر المنظم' مبني على حادثة هجرته، تنتهي بحرف الميم، وأسطر 'الدر المنضد' الذي كتبه الشيخ عبد الرحمن الأريكلي عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ينتهي بحرف الميم، أوَلُ حرفٍ وآخرُ حرفٍ من اسم ’محمّد‘ هما الميم والدال. ومن هذا يمكن أن نفهم فكرة أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته ومراحل حياته مدرجة بين سطور القصيدة، والتي تتضمن ذلك الاسم مما يعني أن الجميع ما زال ولا يزال يحمدونه في كل الدهور والعصور. 
يصف الشيخ الشاعر الأريكليّ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: 
"وكان كأنَّ الشَّمسَ تجري بوجهه 
وما القُرصُ منظورًا بطرفٍ مردَّدٍ" 
"وكان كبدرٍ وجهه متلألأٌ 
فليلته غراءُ في كل مشهَدِ" 
 
والشمائل المحمدية فرع من العلوم التي تم بيانها في الأدب المحمدي. وهي تبحث عن جمال النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهيئته، وحركاته، وإشاراته، وكيفية مشيه، وضحكه، وتصرفاته صلى الله عليه وسلم. ومن الأجدر بالذكر إرادةُ ربِّنا تبارك وتعالى في التسجيل بدقةٍ تامّة جميعَ الحياة النبوية المثالية التي لا بد أن يتأسَّى بها كلُّ واحد. ومن أجملها وأجلها بيان أوصاف النبيّ وجماله صلى الله عليه وسلم، بل جماله وأوصافه فوق خيالاتِنا وبياناتِنا لأن جميع مفاهيم الجمال تنتهي إلى جماله صلى الله عليه وسلم، فلذلك تملأ أسطار بيان أوصافه أيضا جمالا ورونقا، كما قال الشاعر: "أوصافه ما ينتهي تعدادها"
 
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يمتلك شخصيةً لا نقدر أن نصفها بكماليتها ودقتها المتميزة، فلذلك لا يكون في وصفه صلى الله عليه وسلم زيادة ولا تكون لها نهاية ولا مبالغة، بل الألفاظُ تقصُر وتخسُر أمامَ أوصافه صلى الله عليه وسلم، كما قال الشاعر: "والمدح يقصر عن بلوغ المقصد". نرى أن الشعراء يفزعون دون أن يحصلوا على الألفاظ اللائقة والكلمات الأنيقة في وصفه صلى الله عليه وسلم، لكن الشيخ الأريكلي يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأشعاره دون أن تفقد معاني أوصاف النبي الواردة في النصوص القديمة.
 
هنا يشبِّهُ الشيخُ الأريكليُّ وجهَ النبي صلى الله عليه وسلم بالقمر والشمس، فالشمس تُمثِّل نورَ الطبيعة المادِّية والقمرُ يُمثِّل نورا خفيا مخلصا. إن وصف الشيخ الأريكلي وجه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هو مزيج من هذين الاثنين، تعبير بشكل جميل عن الكمال المحمدي من أقصى حدود القدرة البشرية.
 


وقد بين الشيخ رحمه الله في نظمه المسمى ب'الدر المنضد' جميعَ ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم في ضوء الأدلة الواضحة. وهذا الكتاب، رغم أنه صغير في حجمه، فإنه يحتوي على فوائد جمّة، ويصف الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب عما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل نزاهة أُسرته من الأدناس والفواحش، وحياتِه المتميّزة، وشرفِ الحقيقة المحمدية وكماليةِ شخصيتِه الفَذّة وغيرها، في سطور بسيطة وقصيرة. إن هذا النظم مكتوب بلُغة يمكن أن يفهمها بسهولة حتى لمتعلم اللغة المبتدئ، لكنه يُخفِي في داخل شعره عجائبَ نكتٍ لغوية يذهل أمامها المتخصصون في الأدب العربي. 
يبين الشيخ الأريكلي رحمه الله في هذا الكتاب عن كمالية النبي صلى الله عليه وسلم وعصمته من الذنوب والآثام في جميع المجالات، يمكن لنا أن نعتبر هذا العمل القصير ردًا على المبتدعين الذين يستخِفُّون بمكانة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. يشير الشيخ رحمه الله إلى أنه لا يليق لأحدٍ أن يدخل في قراءة السيرة النبوية إلا بعد تطهيره من كل المعتقَدات الخاطئة التي لا تليق لمكانة الرسول الكريم الرفيعة.
 اليواقيت المكنونة بين الأسطر

ومن إبداعات الشيخ الأريكلي كتابه 'الجوهر المنظم'. يعتمد هذا النظم بشكل أساسيّ على رحلة الهجرة النبوية الشريفة. يحتوي هذا الكتاب على الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، وحياة الصحابة المليئة بالمصاعب والمحن، والحوادث المهمّة في بداية الدعوة الإسلامية بإيجاز كامل ودقّة تامة، ولها فروعيات تبحث عن بدء الوحي والدعوة الخفية وعن شكاوي قريش عند أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن لنا أن نفهم من بين السطور لمحات من الوضع الاجتماعي لمكة المكرمة وقتَ بداية الدعوة الإسلامية. الكلمة الواردة في بداية القصيدة، والتي تبدأ بعنوان "بدأ الوحي"، هي صيغة التعجب، ومن الأساليب القرآنية استخدام صيغة التعجب لوصف أحداثٍ ليس لها مثيل في التاريخ. إن الحدث التاريخي الذي لا مثيل له في التاريخ الإسلامي هو بداية الوحي الإلهي، استخدم الشيخ الأريكلي هنا الإستعارات المناسبة اللائقة التي تستخدم في الأدب العربي لتوضيح أهمية الواقعات وعظمتها. وبعد ذلك يبين الشيخ عن التاريخ الحافل بالحوادث المشهورة، واعتناق كبار الصحابة للإسلام، والمصاعب والاضطهادات التي أعقبت الدعوةَ الجهرية، وسلسلة الهجمات والمقاطعات التي أطلقها القريش على المؤمنين، وشكياتهم إلى أبي طالب الذي وقف سنداً وظلاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، طالبين منه الابتعاد عن ذلك الموقف، وعلاوةً من ذلك يبين الشيخ الطريقة المحمدية في الدعوة والخدمة التي تواجه عواصف الأزمات بالرفق والصبر والمحبة دون ظلم وعنف. ويعبر الشاعر مثل هذه الأحداث بلغة جميلة دون أن تفقد حدة المناظر، والشيخ يقدر بأسطره الجميلة الرائعة على إثارة دموع القراء وابتهاجهم وتفكيرهم. إن الدقة في الترتيب، وترتيب الأحداث التاريخية، والدقة في الحوارات، والعرض العادل للتاريخ، تجعل القصيدة رائعة للغاية.
 الخاتمة

السيرة النبوية من الفروع العلمية التي لها إمكانيات غير محصورة في العالم المعاصر. نرى في العالم الأكاديمي الحديث، أنه تتم قراءة السيرة النبوية بطريقة رائعة، كما تتم إعادة تفسير السيرة النبوية وفقًا للمعايير الاجتماعية الحديثة. إن ولاية ماليبار، التي تستحق أن تدعي تراثًا فريدًا في التقاليد العلمية الإسلامية، قد انجبت هذا الشاعرَ المبجّلَ الشيخ عبد الرحمان الأريكلي رحمه الله الذي جمع بين الشعر وسيرة النبوية بلغة النبي الفصحى، وقد فتح الشيخ عبد الرحمن الأريكلي الباب لمزيد من المباحثات في هذا المجال. وعلينا، نحن أبناء وطنه، أن نحاول في فهم عباراته الأنيقة وأن ندقّق في أساليبه الفريدة وأن نتبعه ونتأسى به في هذه المجالات. وأيضا تقع على عاتقنا مسؤوليةُ نقل هذه الدراسات إلى المهتمين بالأدب العربي والسيرة النبوية ونشرها عالميًا، وفي الحقيقة أنه عاش بشكل متواضع في قرية صغيرة في منطقة كاليكوت في أقصى شمال الهند. لا ينبغي أن يكون تواضعه وحياته في قرية صغيرة سببا لعدم معرفته وشهرته وضياع أعماله.

الأريكَلِيّات؛ الطّيب الشعريّ الفيّاح في شمائل النبيّ المِفتاح

كان مساءً ساكنا حينَ بقِيَ جابر متأملا في غرفة الانتظار من مطار كاليكوت، ينتظر مع والدته وإخوته الصغار عودة والدهم من الخليج، لم يمر على ذهابه إلا ثلاثة أشهر حتى اضطر إلى الرجوع، ليس اشتياقه إلى حنان وطنه فحسبُ حمَلَه على الإياب، بل ظل مترقبا إلى عدة أعمال لكن طال انتظاره دون جدوى، كان قد تركت جائحة كرونا أثرا بليغا في كل قطاعات العيش، قارنَ بين بقائه في غربة المهجر صفرَ اليدين وبين سكونه إلى ترنم قريته مطمئنَ البال حتى قرّر العودة.
 
بدأ جابر يتجول في ساحة المطار بعد أن عرف أن إجراءات خروج والده من داخل غرفة التفتيش تستغرق ساعتين، كما هي العادة في عصر كورونا، كان يعتريه اضطرابٌ داخلي مذْ علِم بمجيء أبيه، شعور غريب لا يمكنه الانفكاك عنه، راح يتردد في الحديقة كي يتخلص من ألم أفكاره، لم ترُقْه مناظرُ المطار، رغم عراقتها وإشراقها ولم يشعر بمسيس الرياح الهادئة، بنعومتها ولينها، في نهاية الربيع الماتع، حتى أداه مشيُه إلى حائط عريق يحدق ببستان المطار، وقف عنده وقفة تأمل، يلمسه بكفيه، طيف أفكار مرة لحقت بدماغه، كاد يفقد وعيه بضغوطها الصامتة، فما أشبهه بالعائق الذي يضعه والده بينه وبين أفراد عائلته، جعل يتسرب إلى ذهنه ذكرى لا يحلو تذكرها، رغم أنه يسكن معهم في نفس العش، لكن قلما يثير كيانه أيّ أثر في أمورهم العامة والخاصة. 
 
لم يتوجه إليه أو إلى أحد إخوته يوما ما بالسؤال عن أحوالهم ولا كيف تجري دراستهم ولا كيف هي امتحاناتهم، بل لا يكاد يدري في أي عام دراسي هم، بل انحصرت الأبوة في تسهيل المرافق المادية ولم يذهب عقله إلى توفير الجوانب المعنوية، أهم شيء في بناء الشخصية. وجود أمه ووقوفها الدائم بجانبه وجانب إخوته لم يكد يقع موقعا من كفايتهم لسد الفجوة البعيدة التي تفصلهم عن والدهم. لا يجلس معهم، سوى على طاولة الغداء أو العشاء، لم يشاطر بعضهم هموم بعضهم ولم يشاركوا آمالهم فيما بينهم، يظل صامتا في أغلب الأحيان ريثما يتواجد في منزله، مضت السنوات على أن طمعوا في رحلة ممتعة مع والدهم، حتى يتمكنوا من ذوق حنان والدهم و الوصول إلى داخله. لا يتكلم في بيته سوى مع زوجته وبكلمات بخيلة.
 
 "والدك عانى كثيرا في طفولته بعد وفاة والدته وفقد حنان أمومتها فلم يسعه البيت حتى هرب منه كئيبا، ثم لم يعد إليه إلا وقد مضى عنفوان شبابه ،الفترة التي عاشها بعيدا عن بيته في العزلة وتعقيد الشوارع لعبت دورها في كيانه وطباعه، عدا ذلك كان لم يعش معك طويلا في طفولتك الباكرة بعد أن ترك وراءه كله، عائلته وبيته ورفقته، وتوجه إلى البلدان القاصية ليصل بين أطراف حياتهم ويفي احتياجاتهم، تحملا على عاتقه مسؤولية ترفيه أسرته" الكلمات التي تُردّدها والدته كلما اشتكاها بالأمر. 
 
 ربما تكون صادقة، لا جرم أنه عانى من حياة متشردة في ضواحي الشوارع الغريبة. تدور في ذاكرته صورةُ أمٍّ تركتْه في صباح حياته حتى لم يكد يسُغْه العيش مع آلام فراق أمه ولم يتمكن من أن يستنشق الهواء الريفي في شبابه... ولكنه لم يفهم معنى تأثير فراق أبيه من طفولته في بروز الحجاب الساكت بينه وبين أبيه، مع أن إخوته الصغار لم يفتهم العيش مع أبيهم منذ نعومة أظفارهم، الأمر الذي شوَّش عقلَه وانتهى أخيرا إلى وقع السبب الأول في سلوكيات أبيه. 
 

واصل المشيَ في طرق الحديقة المفعمة بالأزهار الباسمة حتى وصل إلى منتصف الحديقة المتألقة برونقها السحري، لم يلبث أن يرمق الأزهار بنظرات متفائلة حتى علق بداخله بصيصُ أملٍ ولمعانُ رجاء، سيأتي شهر الود والحنان، لم يبقى أمامه إلا أيام لينتهي الشوق ويحقق مبتغاه، كان لم يُحظَ بوجود أبيه في رمضان بعد أن غادر أبوه بيته سعيا وراءَ العمل منذ بلوغه سن التمييز. وهذه المرة بدت الجائحة عائقة أمام أبيه وضغطت عليه بالعودة، حتى يتسنى له قضاء حياة جميلة مع أبيه إن حالفه التوفيق، رسَم جابر الخُططَ المستقبلية في داخله. كان قد لاحظ أن صديقه أحمد كيف قضى عيشه مع أبيه في رمضان السابق، في رغد وسعادة، يتجول مع أبيه في الأسواق حاملا بيده كيسات الفواكه والحلويات، يمشي وراء أبيه إلى المسجد عندما يقرع أذنيه صدى الأذان، مستلهما أُبوَّتَه ومتفاهما أَمْنَه في ظل أبيه، تراكمت الأفكار في دماغه وهو يلاحظ شقوق جدار الحائط الصغيرة، بينما يعتري قلبَه بريقُ الأمل وبصمات الخيبة. 
 

ولم يصل إلى نهاية الحديقة حتى أزال عن ذاكرته الفكراتِ المبعثرةَ نداءُ أخيه بوصول أبيه، رجع جابر إلى السيارة مطرقا رأسه من ثقل أفكاره القاتلة، ومتفائلا في نفس الوقت، رجاء أن يرى أباه في بشاشة وصفاء، لكن النتيجة لم تحِد عن عادتها، والده يأتي إليهم كأنه غادر في صباح اليوم، لم يتحدث معهم إلا كلمتين، يحمل بيديه علبتين بسيطتين، ثم أخذ يمشي نحو السيارة، بدأت السيارة تتحرك وتواصل مسيرتها إلى بيته، والده يحدق نظره إلى جواله، يقلب الشاشة بإصبعه، وما إن وصلت السيارة إلى بيته أسرع جابر إلى غرفته، لم يستلق على السرير حتى سقط إلى هاوية من النوم عاجزا عن هضم أفكاره المتشردة. 

 
وفي صباح اليوم التالي، جلس مع صديقه أحمد، الذي أصبح أكثر من أخ شقيق له، يتبادل معه شكواه ويعرب عما يختلج في داخله. "ربما يكون والدك أيضا يشعر بنفس الآلام، قد تكون الظنون بدت حاجزة بينكم" قالها صديقه الحميم، مدركا نبضات قلبه متوقعا طمأنينة داخله. لكنه رد قائلا دون تردد " بأي حق يحرمني حنانه كي أتحمل أنا تبعات عيش قضاه في مستهل حياته؟!" 
 
"هل سعيتَ أنت َ إلى هجر الصمت بينك وبين أبيك يوما ما؟" 
"لا، لم أسْعَ إلى ذلك." 
"حاوِلْ ذلك، حتى تساعد والدَك على إعادة شعوره بالأسرة وإحساسه بحنان البنوة ولين المحبة، ربما يكون هو في أمس الحاجة إلى من يعيده هذه الشعور الرائعة التي أخذها منه القدر وفقدها في غربة شوارع المهجر. ربما تكون بذلك قد ساعدتَه على استعادة إنسانيته واستلهام مشاعر أبوته". 
 
استمع جابر إلى صديقه مطرقا رأسه نحو الأرض، تسرّب إلى عقله كيف يتحول التراب إلى الطين الليّن بعد أن لعب الماء دوره فيه، حتى عادت إليه سذاجته وفطرته التي خلق الله تعالى عليها أباه الأول آدم عليه السلام. لم يجبه، ربما يكون صديقه محقا فيه، بقي صامتا يردد في ذهنه هل يظل بمقدوره سدُ الفجوة البعيدة المدى بينه وبين أبيه… ؟
 
ثم لم يلبث أن وصل إلى بيته حتى بدأ يفكر في الكلمات التي وعاها من أحمد، ظل يتساءل نفسَه حول الخطط التي يعتمد عليها في نيل هذه البغية السامية، اجتياز عقبةٍ عانى منها كثيرا. كان أبوه جالسا في غرفة الانتظار، مرتشفا القهوة، كعادته، يشاهد الأخبار السريعة في جواله، اتخذ القرار على التحدث معه ومشاركة أحلامه حتى بدأ يتخيل منظر عودته من الغرفة شامخا منتصرا في مهمته الاستراتيجية الدقيقة، سرعان ما اقترب من الباب وألقى نظرة ضئيلة إلى أبيه حتى رجع القهقرى، طفقت قدماه تضطربان كأنهما وطِئَتا الأحجار الملتهبة. ثم باء إلى غرفته بالخيبة والندامة معترفا بفشله، قد سئم من عجزه في لحظة تتطلب أكبر من الشجاعة والهمة. 
 

أخذ يطرح نظراته الكئيبة خلال نافذة الغرفة المظلمة إلى الابتسامة المزدرية التي رمتها زهورُ الربيع الراقصة في ترنم الرياح الصامتة، ماذا يكون أول كلمة يقولها لوالده "كيف حالك أبي؟ ما الذي تشير إليه الأخبار فيما يتعلق بانتخاب البرلمان؟ " أو يقول له بِجَلاءٍ "اشتقت لك ولحنانك كثيرا أبي". أجل، هذا ما يرومه بالضبط أن يقول لأبيه، لا يزال يردد هذه الجملة في داخله حتى إذا أراد أن يخرجها من أعماقه تقرع الحروف شفتيه فكأنهما سمّرتا ولم تكادا تفتقان ثم تعود إلى حيث جاءت وتتلاشى في ظلمة داخله. صديقه لا يدري كيف هو الوضع ولا مدى ابتعاد والده منهم، ولا يفتأ يطرح إليه ثلة من الأساليب، رجع كلها بدون طائل يذكر "هل تكللت خطتك بالنجاح في هذه المرة" سأله أحمد في اليوم التالي. "بذلت جهدي، لكن خطتنا باءت بالفشل كعادتها" أجابه مطأطأً رأسه في خجل. "استمر محاولتك، لا يخيبك الله أبدا، سيأتي لك يوم تكون أنت فيه أسعد من في الدنيا" ثم أمطرت الكلمات على التوالي، كلها تحفيزية، وقد دخلت السآمة إلى سمعه من كثرتها، 
 
ركب والده أحد الأيام على دراجته للذهاب إلى مكتبه الجديد في المدينة وهو في طريقه إلى المطار ليودع صديقه أحمد، وقد منحه القدر عملا لائقا في الكويت. أخذت شفتا جابر ترتجفان وتنْوِيان الكلام وكان والده يتكلم مع الطرف الآخر في جواله وهو لا يعلم أين هو، ولم تزل أعماقه تتدفق برغبة وأمل، تدفع من قوته الكلمات إلى الخارج لكن لسانه لم يف بوعده الذي قطعه البارحة حيث تخلّف عن ترجمة الكلمات الداخلية للشفة التي تبقى مترقبة، انطوى البعد جدا، كأنه وصل إلى مكتب والده في نصف وقته المعتاد، لم تبلغ الدراجة أمام مكتبه حتى توقفت عفوا. 
 
سرعان ما نزل والده من الدراجة وعمد إلى مكتبه وهو لم يدر شيئا، الأسوأ من هذا أنه لاحظ أباه كيف يتعامل مع شريكه في بشاشة وسذاجة. وبقي قبالة مكتبه هنيهة، ثم توجه إلى المطار كئيبا مفعما بالحزن والأسى، حتى إن وصل أمام حائط الحديقة وقف عنده متأملا. يعرف أن صديقه سينْقضّ عليه بوابل من الأسئلة، كلها لا يزيده إلا ألما وكآبة. فيجيبه بما حدث وكيف فشل في هذه المرة، وراح أحمد يطرح عليه خططا جديدة وهو يدخل إلى المطار، كلها غير مجدية وسيخبر صديقه بأنه سيواصل جهوده ويكرس حياته في سبيل نيل مبتغاه…

الأيام الصامتة

٢
 
 

وضع خالد رأسه على الوسادة محاولًا استعادة أنفاسه التي أوشكت أن تنقطع قبل قليل. حانت منه التفاتة نحو النافذة لكن لا شيء سوى ظلمة الليل البهيم. الكابوس ذاته يكتم على أنفاسه كلما تجاهل أخذ حبوبه المنومة. هواجس وظلال أشباح تتحرك من حوله. صراخ ودماء.. حجر بحجم الكف يقطر دمًا قانيًا يكوِّن بركةً تكبر شيئًا فشيئًا حتى تكاد تبتلعه، وأمه على مقربة منه تنهار باكية تلطم خديها. صور متفرقة وكلمات مبهمة، هي كل ما يتذكره، يحاول تجميع أحداث ذلك اليوم المشؤوم لكنه يعجز، وكلما توغل أكثر في ذاكرته كلما تشتت الأحداث، وتفلتت من يده. 
يختفي كل شيء ليجد نفسه محاصرًا بنظرات طيف خالية من أية تعابير. لا شيء واضح سوى أنه يسير في طريق لا يعرف نهايته.
كم يشتاق لتلك الليالي البعيدة حين كان يضع رأسه على وسادته ويغط في نوم عميق، لا يستيقظ إلا على صوت المنبه أو صوت أمه الحنون، لا يعرف شيئًا اسمه حبوب، أو أرق، أو كوابيس. حينًا تترآءى له نفسه وهو يمسك بحجر يدق بها رأس أحدهم وحين يتعب من توجيه الضربات المؤلمة للنائم على الأرض، يقترب منه، فيرى نفسه ممددًا يتفجر الدم من رأسه ويحدق فيه بنظرات شامته يفر منها فزعًا خائفًا، فكيف يكون قاتلًا ومقتولًا في الوقت نفسه، خائفًا وشامتًا في اللحظة ذاتها! وطيف يملك ملامح وجه يحفظ تفاصيله، يقف هناك يراقبه طوال الوقت من النافذة، وأحيانًا تنعكس صورته على صفحة بركة الدم التي تحاول أن تغرقه، لا يفعل شيئًا سوى أنه يرقبه ثم يمضي بهدوء.
رغمًا عنه يتآكل تحت وطأة شعور بالذنب من جرم ارتكبه ويجهل تفاصيله، لا يملك أي تفسير كيف ارتكبه ولماذا انمحى من ذاكرته كليًا، وها هو يُعاقَب عليه كل لحظة من لحظات يومه، من دم تلطخت بحمرته الدافئة يداه. 
تمضي سنوات عمره بأيامها الطويلة المملة ولياليها الغارقة في دموعه وتوسلاته لطيفٍ لا يلبث أن يظهر حتى يختفي وسط الظلام، متجاهلًا كل استغاثاته: "ليته لا يرحل!" تمتم بخفوت: "وليته لا يأتي" أعقب عقله الباطن، ليت كل هذه الأدوية التي لا تجيد سوى تحويله إلى كيس أسمنتي لا حياة فيه ولا حركة أن تختفي هي الأخرى من أمامه، فيدفن كابوسه الدموي دون رجعة، فلا هو يتركه يكمل حياته بهدوء، ولا هو يجهز عليه ويريحه من حياة لا يريدها. 
"لكنه لا يموت!" وكأن أحدهما يستمد حياته وقوته من الآخر، ولا مجال لانفصالهما عن بعضهما إلا بموت خالد نفسه. لكن.. "لماذا هو دون سواه يتحمل الذنب كله بينما البقية يعيشون حياة طبيعية!" سؤال عجز عن العثور على إجابة مقنعة له، أو حتى غير مقنعة. 
بدأ الخدر يتسلل إلى أطرافه، خدر لذيذ ينبئ بنوم عميق، أعمق من أن يتيح المجال لأي كابوس أن يعبث به. مر أمام عينيه شريط لأحداث متقطعة ومتسارعة، محفوظة في نقطة يجهلها من عقله الباطن، بينما يتسارع الخدر بالتسلل إلى جسمه، ويبدأ عقله بالاستعداد لنوم طويل تكون الأحداث والشخوص أكثر وضوحًا: أشجار المانجو، الحديقة الواسعة، سعيد، والده محسن، لا، عمه محسن، بل والده، لا عمه! يهز رأسه بعنف يحاول تبيان هل من يمسك به ويحاول أن يثنيه عن إكمال جريمته هو عمه محسن أم أبوه محسن! هز رأسه بعنف محاولًا التشبث أكثر بوعيه وإدراكه، لكن سريعًا ما يتشتت الإدارك خلف مشاعر اجتاحته هي مزيج من الاحتياج والشوق الجارف لمحسن بغض النظر عمن يكون، وصلة قرابته به. احتياج ونفور في آن واحد، شوق ولا مبالاة، حب وكره، مزيج متساوٍ من كل هذه المشاعر تزاحمت في قلبه، فما عاد يتبين هل هو يحبه أم يكرهه! لكنه يشتاق إليه، هذا الإحساس الوحيد الذي يستطيع أن يميزه الآن وهو في هذه الحالة من الوعي واللاوعي، ومع ذلك يكره هذا الاشتياق ويمقته.  
"آه".. تحررت من صدره بينما انسابت دموعه على صدغيه واستقرت على وسادته. وبينما هو يصارع هذه الأحاسيس يرى جسده ممددًا أمام عينيه يتخبط كما يتخبط الطير حين تقطع السكين رقبته، حاول أن يعتدل في جلسته لكن الخدر استوطن كل خلية فيه، وراح عقله يسبح في بحر يتهادى بنعومة، أغمض عينيه وهو يتمتم "ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا.." وسريعًا غط في نوم عميق. 
 
 

 ٣
 
 
في ذلك الوقت كانت والدته تتكور على سريرها وبين الحين والآخر ترهف السمع علَّه يعود إلى صراخه من جديد، لكن لا شيء غير السكون وهمهمات ليلية مبهمة. أطفأت النور ووضعت رأسها على الوسادة دون أن تغمض عينيها، فهذا حاله منذ الحادث إياه. سنوات مرت عليه بلياليها وأيامها الطويلة ولا يزيد حاله إلا تدهورًا، فلا تكاد تنام حتى تصحو على صراخه وتوسلاته لطيفٍ لا يراه أحد سواه، وكأنه يعيش في أعماقه، يقتات على طاقته وصحته وراحة باله، تهرع إليه لتناوله حبوبه التي تحوله إلى جثة هامدة لا تتحرك حتى الصباح، ورغم أنه يعاندها ويعاند نفسه برفضه تناولها لكن ما أن تسوء حالته ويعصف به الخوف، حتى يرضخ ويستسلم لها مجبرًا.. ينام هو لتعجز هي عن النوم، لا تتذكر أن شمسًا يوم أشرقت عليها وهي نائمة، فكأنهما يتناوبان النوم، تنام هي ساعات أول الليل، لينام هو آخره، وتأرق هي حتى الصباح.
 أتعبها حاله، ولا أحد بجانبها يساعدها بالاعتناء به، بل هو ذاته يرفض أن يشاركه أحد همه، أو يساعد نفسه، وحتى عندما اقترحت عليه أن يتزوج عله يجد من يؤنس وحدته، ولعل كائنًا حيًا بجانبه يبعد عنه الطيف الذي يؤرقه دون كلل أو ملل، وكلما انسحب لسانها بهذا الاقتراح: "إن كنت قد أتعبتك فسأترك لك البيت وأرحل." يقولها وهو يرمقها بنظرات غاضبة متذمرة "إلى أين يرحل المجنون، وقلبي بيته!" ثم كيف يتركها وما عادت تتمسك بالحياة إلا لأجله!  
لم تدَعْ طبيبًا لم تعرضه عليه، ولم يترك دواء لم يجربه، لكن حاله لا يزيد إلا سوءًا 
"مشكلته نفسية بحتة، والأدوية لا تقوم إلا بتهدئته ومساعدته على النوم، إن أردتم شفاءه التام عليكم بحل المشكلة من أساسها".. قالها الطبيب المعالج بعد أن كثرت زياراته له دون تقدم يُذكر. 
 
لكنه لا يتذكر شيئًا على الإطلاق مما حدث؟  
 
ربما لا يريد أن يتذكر، أو جزء منه على الأقل لا يريد ذلك، فبعض الأحداث التي تخيفنا جدًا، وندرك أننا ارتكبنا من خلالها جرمًا ما، نعمد لرميها في جزء خفي من عقولنا بحيث لا نستطيع نحن أنفسنا الوصول إليها. 
والحل؟! 
 
الحل بيد الله تعإلى ثم بيده هو، استمري بالمحاولة معه، قد تجدي بابًا تدخلي من خلاله لعقله العنيد، أو على الأقل تفسحي له المجال ليتسرب من النقطة المظلمة إلى دائرة الضوء. 

لا تدري كيف تجد ذلك الباب أو المنفذ وابنها يرفض بعناد أن يمد يد العون لنفسه، أو حتى أن يسمح لها بالمحاولة. لكن.. لِمَ عليه أن يتلقى اللوم وحده، فهي أيضًا ملومة، بل لعلها الملوم الأول في كل ما حدث، فلو انتبهت منذ البداية لشكاواه وتذمره المتكرر، لو لم تستهن بالعزلة التي حبس نفسه فيها لسنوات طويلة لكانت الآن تنعم ببيت هادئ يحيط بها أحفادها. 
لا هي انتبهت وأعطت الأمر الحجم الذي يستحقه، ولا محسن استمع لكلامها في المرات القليلة التي خاطبته بأمر خالد، كلاهما كانا يعتبران الأمر مجرد تذمرات طفولية لا أكثر، يُمنيان نفسيهما بأنه سيكبر ويعقل، لم يعطيا الأمر حجمه الحقيقي، ولم يدركا أن ما كان يعتمل في صدره أكثر من مجرد غيرة عابرة. 
أخذت نفسًا عميقًا فلا تملك سوى انتظار الفرج من حيث لا تحتسب. "خيرة الله"، تمتمت بها وهي تغمض عينيها بعد أن أنهكها التفكير، لكن لم تلبث أن فتحتهما وهي تعتدل في جلستها. عقدت حاجبيها وهي تركز في نقطة لا مرئية في الظلام، وكأنها تتبع خيط أمل لاح لها من بعيد.
 " لم لا!"  
تمتمت بها، رغم شعورها أن ما تفكر فيه غير منطقي، لكن لم يتبقَ أمامها إلا هذا الباب، ولن تتوانى عن طرقه مهما كلفها الأمر. ستطرق باب من يزور طيفه ابنها كل ليلة وبدلًا من أن يظل موجودًا في البيت بهيئة طيف يدمر حياة ابنها، لما لا تذهب إليه وتحضره إلى هنا روحًا وجسدًا، فلعل حضوره أن يغيِّر من الأمور الكثير! 
بعد طول تفكير وضعت رأسها على الوسادة، وابتهلت إلى الله أن يأتي الصباح سريعًا.

سمَّيتُها فاطمة - ٢ 

مِنْ مَظَاهِرِ تَجْدِيدِ النَّظْرِيَّةِ الصَّرْفِيَّةِ عِنْدَ اللِّسَانِيِّ تَمَّام حَسَّان

(مرثية المرحوم تاج الشريعة رحمه الله)
 
أُفُولُ الشُّمُوسِ الْعَالِيَاتِ الْمُنِيرَةِ 
بِهَا صَارَتِ الْأَقْدَامُ رَعْدًا فَزَلَّتِ 
غُرُوبُ الْفُحُولِ الْعَالِمِينَ يَزِيدُنَا 
بِأَضْعَافِ حُزْنٍ وَالْمَآسِي لَزَادَتِ 
وَمِنْ مِثْلِهِمْ أُسْتَاذُنَا الشَّيْخُ وَالْوَلِي 
بِكُفْءٍ لَهُ كُلُّ النِّسَاءِ فَشَحَّتِ 
وَلَا جَادَتِ الْأَزْمَانُ مِثْلًا وَلَمْ يَكُنْ 
لَهُ الشِّبْهُ فِي الْأَكْوَانِ مَهْمَا تَبَاهَتِ 
أَلَا فَهُوَ شَيْخِي الْقَادِرِيُّ الْحَنُونُ إِذْ 
بِقَلْبٍ رَقِيقٍ حَازَ لُبَّ الْأَحِبَّةِ 
فَبَحْرٌ لِعِلْمٍ قَاعُهُ بَاتَ يَكْثُرُ 
إِلَيْهِ رِكَابُ النَّاسِ سَارُوا وَشُدَّتِ 
لِسَانٌ رَطِيبٌ بِالْمَدِيحِ الْمُعَطَّرِ 
لِخَيْرِ الْوَرَى دَوْمًا مَحَطُّ الْمَحَبَّةِ 
وَلَمْ يُحْصَ كَمْ مِنْ مَرَّةٍ نَالَ رُؤْيَةً 
لِوَجْهِ الْحَبِيبِ نَائِمًا بَلْ بِيَقْظَةٍ 
بِذِكْرَى الْخَلِيلِ الْمُصْطَفَى كَانَ يَرْتَوِي 
قُلُوبُ الْجُمُوعِ الْحَاضِرِينِ تَجَلَّتِ 
بِخِدْمَاتِ عِلْمٍ طُولَ عَيْشٍ لَقَدْ قَضَى 
وَلَقَّبَهُ الْأَعْلَامُ تَاجَ الشَّرِيعَةِ 
لَقَدْ غَابَ مَعْهُ نُورُ عِلْمٍ وَلَمْ يَزَلْ 
رَحِيلٌ لَهُ يَزْدَادُ بُؤْسَ الْكَآبَةِ 
تَعَازِي كِبَارِ الْعُلَمَاءِ تَدَفَّقَتْ 
وِدَاعًا لِتَاجِ الْعِلْمِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ 
وَيَا رَبِّ أَفْرِغْ قَلْبَنَا صَبْرَ صَابِرٍ 
وَوَفِّقْ لَنَا جَمْعَ السُّرُورِ بِجَنَّةٍ 
وَزِدْنَا بِعِلْمٍ نَافِعٍ ثُمَّ حُبَّهُ 
بِبَرَكَاتِ ذِكْرَانَا بِتَاجِ الشَّرِيعَةِ

رثاء الكئيب في رحيل محب الحبيب

الفصل الثاني
 
 


في واحدة من القرى المتناثرة على جبل صبر المطل على مدينة تعز، وبعد زواج دام أكثر من ثماني سنوات شعرت خديجة، الزوجة الريفية البسيطة، بآلام المخاض. كان حملها الرابع خلال سنوات زواجها من "قائد"، الزوج الطيب الذي ترك القرية ليعمل في محل خياطة في مدينة تعز، يعمل طوال شهور السنة، ويعود إلى قريته في العام مرتين أو ثلاثًا يطمئن على بنياته وزوجته وينال قسطًا من الراحة ثم يعود لعمله ووحدته. 
كان قائد الثالث بين إخوته، يسبقه محمد الابن الأكبر واخته فتحيه، ويليه أخويه سيف ونذي. 
تزوج قائد وعمره لا يتجاوز العشرين من فتاة بسيطة اختارتها له والدته. استقر معها في بيت والده، وعمل في بداية حياته مزارعًا بأرض والده، لكنه لم يتفق مع أخيه محمد الذي كان يَشعر ويُشعر الجميع أنه الوحيد الذي يملك الحق بإدارة الأرض كونه الأكبر، ووقف مع والده فيها منذ سن مبكر. بعد تدهور صحة الوالد أصبح هو الوحيد المخول بإدارة الأرض كيفما يشاء. سيف ونذير كان حظهما أفضل من حظ قائد بالتحاقهما بالمدرسة. بعد توتر العلاقة بين الأخوين ترك قائد الأرض لأخيه، و اشتغل عاملًا لدى الآخرين، يحرث أرضًا هنا ويزرع أرضًا هناك، وأحيانًا يشتغل في أعمال البناء بأجرة يومية، وحين ينعدم العمل يجمع الحطب ويبيعه حين لا يجد عملًا بالمرة. كان يكسب القليل لكنه يكفيه عناء ومشقة الشجار مع شقيقه محمد الذي امتدت سلطته للبيت بعد وفاة والدهم. لم يكتفِ بحرمان جميع إخوته من ميراث أبيهم بل اعتبر نفسه صاحب البيت والأرض وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة ولا حق لأحد في معارضته. وليكسب "قائد" راحة باله قرر ترك بيت العائلة والاستقرار مع أسرته الصغيرة في بيت منفصل، لكن في قرية صغيرة يبني الناس بيوتهم ليعيشوا فيها هم وأبناؤهم وأحفادهم. لم يكن إيجاد بيت للإيجار بالأمر الهين، كانت أغلب البيوت قديمة ومتهالكة، ومع ذلك استقر في واحد منها على أمل أن يراجع محمد نفسه ويسلمه أرضه التي ورثها من والده ليبني عليها بيتًا له ولزوجته وبناته. وعندما ضاق به الحال ترك زوجته وبناته وسافر للمدينة للبحث عن عمل دائم، هناك صادف عذابا من نوع آخر، فهو لا يحمل أي مؤهل دراسي، لا يملك غير ساعديه وخبرته الزراعية والتي لا تجدي نفعًا في مجتمع لا يزرع، عمل حمالًا لوقت ليس بالقصير. مرت شهور لا يرسل فلسًا لزوجته وابنتيه اللتين عُزّزتا بثالثة دون أن يأتي الولد، لكنه أخيرًا وجد عملًا في محل خياطة، تعلَّم أصول المهنة ليستقر فيها طوال السنوات اللاحقة. 
لم يكن يغصه سوى خلفته التي تميزت كلها بالبنات، ليس لأنه لا يحبهن لكنه أصبح محل سخرية وتندر في مجتمع ريفي عتيق يرى أن البنت خلفة ناقصة لا يكملها ويداري عورتها سوى الأولاد. لم يعبأ بما يقال ولم يكن يغيظه سوى محمد الذي كان دومًا يتعمد أن يُذكَّره ساخرًا بخلفته، يعرض عليه متهكمًا أن يزوجه بأخرى لتنجب له الولد، ومع ذلك لم يكره "قائد" يومًا بناته، لكنه تمنى من أعماق قلبه أن يرزقه الله بالولد كي يكون سندًا له وعونًا لأخواته ووالدته. لذا، وبمجرد أن أعلمته زوجته بحملها الرابع التفت إلى بنياته الثلاث وتحرك لسانه دون إرادة منه بالجملة التي تتكرر في كل حمل "يا رب ولد". 
انتظر شهورًا طويلة على أحرِّ من الجمر، وما أن أطلقت زوجته صرخات المخاض المتألمة حتى تعلَّق قلبه بين السماء والأرض، خوفًا عليها وانتظارًا لأمنيته أن تتحقق فيرفع عينيه بعيني أخيه بكل ثقة وقد أصبح أب الأولاد والبنات، مرت ساعات الليل طويلة، ومع أول إشراقة لشمس الصباح تعإلى صراخ طفل في الدار "ها بشِّري!" استقبل القابلة على الباب متلفهًا ودون أن ترفع بصرها نحوه أخبرته أن المولود أنثى. 
"وليس الذكر كالأنثى".. ترددت بين جدران قلبه وهو يتهاوى على الأرض، ثم ما لبث أن تحامل على نفسه وتوجه إلى ابنته الجديدة ورفيقة عمره المنهكة، اعتذرت له بنظرات كسيرة، فطبع قبلة حانية بين عينيها وحمل الصغيرة بين يديه يردد الأذان في أذنيها ويقبل يديها الصغيرتين، "فاطمة.. سأسميها فاطمة على اسم والدتك رحمها الله." 
تقافزت الدموع إلى عيني الأم سعادة بالاسم وبزوجها الطيب الراضي بقضاء الله وقدره.. وكان على "قائد" في الصباح أن يتحمل مباركة أخوه المتشفية "لا تقلق، ستجد لهن كلهن أزواج، فلا تنس أن خلفتي كلها أولاد"! 
لم تكن المرة الأولى التي يلمح فيها أخوه محمد لهذا الأمر، فهو في كل مجلس يخبر الجميع أن بنات أخيه لن يكن إلا من نصيب أولاده، فالبنت لا تتزوج إلا ابن عمها، وإن كان كلامًا لا يؤخذ على محمل الجد لصغر الأولاد والبنات لكن في قرارة نفسه أدرك قائد أن محمدًا يعني كل ما يقوله، لم يجادله يومًا فلكل حادث حديث، ليقل ما يشاء وليفعل هو ما يريده. 
بعد أن تعافت زوجته وأصبح بمقدورها الاعتناء بالبيت ودَّعها وودع بناته عائدًا إلى المدينة حيث مصدر رزقه. يقضي طوال النهار خلف ماكينة الخياطة، يعدل هذه ويخيط تلك لكن عقله معلَّق عند زوجته وبناته، لم يكن يرتاح لفكرة تركهن وحيدات دون وجود حماية لهن، أثناء عمله انغرست إبرة الخياطة في إبهامه فعصر الألم قلبه، كل واحدة منهن عنده أفضل من عشرة أولاد، لكنه يتمنى الولد في اليوم ألف مرة ليطمئن عليهن إن أصابه مكروه، فلا يجدن أنفسهن تحت رحمة عم أناني، أو خال لا يملك من الوقت أو حتى المال ما يكفي للاعتناء بهن. 
ومع ذلك فوَّض أمره وأمرهن إلى الله، فهو خير حافظ وخير سند. 
ورغم مشقة الأمر عليه ماديًا ومعنويًا ضاعف قائد من أوقات زياراته لبنياته، فلا ينقضي شهر إلا ويقضى منه عدة أيام معهن ليعود بعدها إلى عمله.

سمَّيتُها فاطمة - ٣

يتبلور جليّا لمن يقرأ سيرة الإمام أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله أنه قد انعقدت عليه خناصر الملأ، واقتدى به الأئمة، وأصبح موسوعة غنية للعلوم الإسلامية بين أعلام القرن العاشر، وصار إمام الحرمين، وإمام العلماء المحققين، ولسان الفقهاء المدققين، وكان من أحد الأئمة الأفاضل الذين لم يطعن فيهم أحد من العلماء المعتبر من عصره إلى الآن، ومصنفاته آية في عصره يخيب عن الإتيان بمثلها المعاصرون، وفتاويه غاية يتضعضع عن بلوغ مداها العالمون، وأبحاثه في المذهب كالطراز المذهّب، ومن يرد أن يحل معضلات المشاكل في مختلف العلوم والفنون لا يستطع أن يجلّيه إلا لديه، وهو الذي يبخل بمثله الزمان، فريد عصره، ووحيد دهره. 
وله علاقة وثيقة ببلاد كيرالا، لأنها تشّرفت بزيارته، ومسلمو مليبار اعتنوا بكتبه اعتاناء بليغا، خاصة في الفقه الشافعيّ، لأنّ كتابه 'تحفة المحتاج بشرح المنهاج' له أهمية كبيرة عند علماء مليبار. مولده ونشأته:
إنّ الإمام العلاّمة شهاب الدين أبا العبّاس أحمد بن بدر الدّين محمّد بن شمس الدين محمّد بن نور الدّين علي بن حجر السَّلَمنْتيّ أصلا، والهيتميّ مولدا، والأزهريّ مَرْبى ومنشأ، والصوفيّ إرشادا، والجنيديّ اتّباعا وانقيادا، والأشعريّ اعتقادا، والوائليّ السعديّ نسبا، والشافعيّ مذهبا، ولد -رحمه الله تعالى – بمحلّة أبى الهيتم بعد انتقال أهله عن بلدهم الأصليّة 'سَلَمَنت' سنة تسع وتسع مئة هجريّة في أواخر رجب. وتوفّي أبوه وهو صغير، فكفله جدّه المعمّر، وكان قد حفظ القرآن والمنهاج للإمام النووي، ثمّ لمّا مات جدّه كفله شيخا أبيه الإمامان شمس الدين ابن أبي الحمائل وشمس الدين الشنّاوي، وبالغا في تربيته.
 
طلبه للعلم :
نقله شيخه الشنّاوي من بلده محلّة أبي الهيتم إلى طنطا مقام الإمام السيد أحمد البدوي، فقرأ على عالمين، كانا به، من مبادئ العلوم. وفي سنة أربع وعشرين تسعمائة نقله الشنّاوي إلى جامع الأزهر وسلمه لرجل صالح من تلامذته، فأقرأه متن المنهاج وغيره، وجمعه بعلماء مصر مع صغر سنه، وقرأ هناك أيضا 'مختصر أبي شجاع' على شيخه أبى عبد الله محمّد الجوينيّ، واجتمع أيضا بالإمامين زين الدين عبد الحق السُّنباطى والإمام زكريا الأنصاري ومن في طبقتهما فقرأ عليهم في الحديث وفنونه، ثم بعد تحصيله الحديث على هؤلاء الأجلة اشتغل بالفقه ودراسات متونه، فبذل فيه جهده وفرّغ إليه وقته، وقرأ فيه على جماعة كناصر الطبلاوي وتاج العارفين أبى الحسن البكري، وقرأ أيضا في شتّى العلوم غير الفقه والحديث الأشياء الكثيرة على جماعة محقّقّين كالناصر اللَّقَّانيّ والشِّنشوْري وغيرهم من كبار الأئمة وأجلّهم الذين ذاع صيتهم في الآفاق. 
وهكذا ما زال ابن حجر ينتقل في الأزهر الشريف من درس إلى درس، ويدور على شيوخه طالبا تحقيق العلوم، كل ذلك مع دقّة الفهم والملاحظة، حتى أجازه مشايخه بالإفتاء والتدريس والتأليف من غير سؤال منه لذلك سنة تسع وعشرين وتسعمئة وعمره دون العشرين.
 
عنايته بالتصنيف:
كانت له اليد الطولى في التصنيف، وبالخصوص في الفقه والحديث والسيرة والتاريخ، فامتازت مؤلفاته بالتدقيق والتّوثيق والإحكام والإتقان، ومن ثم اشتهرت تصانيفه بين الأئمّة والعلماء من أهل مذهب الإمام الشافعيّ وغيرهم ، وكلها تشفي غليل الطالب قديما وحديثا، كل ذلك بتوسّع واستيفاء وحسن التعبير والتحليل. ومن أجل مؤلفاته وأعظمها وأحسنها في هذه السمات على الإطلاق "تحفة المحتاج بشرح المنهاج" في الفقه الشافعي فإنها في دقّة العبارات، وحلاوة الإشارات، وبُعد الأعماق، ووفرة الأسرار، وزينة الأستار حتى بلغت مبلغا لم تصل إليه الأسفار، ولا تخفى أهمية التعرف على مؤلفاته، والإطلاع عليها خصوصا مؤلفاته الفقهية منها، فإنها كانت وما زالت عمدة المتأخّرين من الشافعية، كثيرا ما يعولون عليها ويصبرون فتاويهم على ما فيها، فكثرت كتبه المختصّة بالمذهب الشافعي لما له من تبحر في المذهب حتى احتفلت كتبه بالتحقيقات والتحريرات والتعقيبات لكثير من مسائل المذهب والخلافات بين المتقدمين والمتأخرين، مما ألجأ اللاحقين إلى اعتمادها والوقوف عندها. 
وابتدأ تأليفه في سفره للحج أول مرة سنة ثلاث وثلاثين وخطر له أن يؤلف وتوقّف حتى رأى الحارث ابن أسد المحاسبي وهو يأمره بالتأليف فاستبشر وألّف، ورأى القاضى زكريا بعد وفاته وقد نزع عمامته وألبسه إياها، وقال: فعلمت أنّ اللّه يلحقني به.
 
آثاره في المذهب الشافعي:
لقد تبوّأ الشهاب ابن حجر مرتبة جليلة عند علماء الشافعيّة، سواء علماء عصره أو من بعده، إليه ترجع العويصات من الفتاوى، والمشكلات من المسائل طلبا لتحقيقها وتحرير الكلام عليها بسبب جهوده في المذهب، بحيث تحسن المقارنة والترجيح بينهم وبين غيره من فقهاء المذهب كالشيخين النووي والرافعي، ولا يخفى ما لهذا الجانب من فقهه من أثر كبير في المذهب، إذ كلامه وترجيحاته واختياراته محل اعتماد وقبول وتقديم عند المتأخرين من الشافعية، لا يساويه في ذلك إلا معاصره الإمام الشمس محمد الرّملى، ومن أشهر مصنفاته في الفقه الشافعي فتح الجواد، والإمداد في شرح الإرشاد، وشرح مختصر بافضل، والإيعاب في شرح العاباب، والفتاوى الكبرى. 

عنايته بالحديث الشريف:
إن للشهاب ابن حجر عناية كبيرة بفن الحديث أيضا، وإنه كان من المحديثين الحافظين، فقد وصفه غير واحد ممن عاصروه وغيرهم "بالحافظ"، وكان الشيخ زكريا الأنصاري أيضا من الحفّاظ، وكان أوحد أهل زمانه بالأسانيد العالية، وقد أخذ عنه الهيتمي وعن غيره من المحدّثين والحفّاظ الأجلّة.
ومن طالع مؤلّفاته في الحديث "إلصاق عوار الهوس بمن لم يفهم الاضطراب في حديث البسملة عن أنس" لا يكون له أدنى توقف في نبوغ الشيخ في علم الحديث وغاية إتقانه له، بل كان له الأجزاء والشروح الحديثية ومتعلقاتها ك'فتح المبين في شرح الأربعين' للإمام النووي و'أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل' و'فتح الإله بشرح المشكوة'. 

عقيدته : 
كان الشيخ من أساطين أهل السنة والجماعة، قامعا لأباطيل أهل الزيغ والأهواء كالمعتزلة والمجسمة، وشنع عليهم أشدَّ تشنيع، بل خص بالتأليف في الرد على بعضهم ككتابه "الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة" حيث يرد على من انحرف عن سبيل الحق، وقد صرح ابن حجر بنسبته إلى الأشعرية اعتقادا في آخر ثبته المسمى ب'الإجازة في علم الحديث'، وقال في كتابه 'الزواجر عن اقتراف الكبائر': "المراد بالسنة ما عليه إمام أهل السنة والجماعة الشيخ أبو الحسن الأشعري وأبو المنصور الماتريدي"، وصرح أيضا في كتاب آخر بأن من خالفهما فهو مبتدع. 
ومذهب الأشاعرة في الاعتقاد هو ما كان عليه جماهير أئمة الإسلام وعلماؤه، إذ المنتسبون إليهم والسالكون طريقهم كانوا أئمة العلوم قاطبة على مر الأيام والسنين، وهم الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة كلهم يد واحد على رأي أهل السنّة والجماعة.
 
وفاته:
كان ابتداء مرضه الذي مات فيه في شهر رجب، فترك التدريس نيّفا وعشرين يوما، ووصى يوم السبت الحادي وعشرين، وتوفي في مكّة المكرمة ضحوة الاثنين الثالث والعشرين من نفس الشهر، سنة أربع وسبعين وتسعمئة، ودفن بالمُعلا بالقرب من مصلب عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما- وجعل عليه تابوت من خشب، نفع اللّه به وبعلومه في كل عصر ومصر.

شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي: موسوعة العلوم الإسلامية وخاتمة المحققين

توالت السنوات على الوتيرة نفسها. كبرت فاطمة وأخواتها في قريتهم الصغيرة، والوالد موزع هنا وهناك ليوفر لهن ولوالدتهن لقمة العيش، خلال زياراته المتكررة إلى القرية خاطبه أخوه أكثر من مرة ليعود ويعمل معه في الأرض بشرط ألا يطالبه بالتقسيم، ووعده أن يعطيه نصيبا من ريع الأرض كما يعطي البقية وفق ما يراه هو مناسبا. رفض عرضه مكتفيًا بما يكسبه من عمله في تعز. 
في البداية كانت تنتابه مشاعر القهر والألم أن يتعرض وبقية إخوته لسرقة حقوقهم بهذه الطريقة.. وممن؟ من أخيهم الأكبر الذي يفترض أن يعتني بهم بعد وفاة والدهم، لكن ومع انقطاع كل السبل لاستعادة الحق لم يجد الإخوة غير تفويض أمرهم إلى الله، فكل أوراق ملكية الأرض والبيت كانت بيد أخيهم محمد كونه كان الساعد الأيمن لوالدهم منذ وقت مبكر للغاية. 
"لو كنتْ مكانه ربما فعلت الشيء نفسه." قالت له زوجته، فأومأ برأسه موافقًا وإن كان لا يعني الموافقة على سلب حقه، ومع ذلك قرر ألا يهدر وقته وجهده في المحاكم، ففي كل الأحوال لا يملك المال ليصرفه على قضية سينتهي عمره ولن تنتهي. 
مع الوقت تأقلم مع الأمر الواقع. اعتبر أنه لم يرث شيئًا على الإطلاق؛ ليحافظ على علاقة أخوة تربطه بإخوته خاصة محمد، وإن لم تكن بدرجة من القرب والود الذي كان قبل الخلاف الذي نشب بينهم لكنها كانت أفضل من القطيعة بشكل نهائي. 
ببلوغ ابنته الكبيرة سلوى الثانية عشر من عمرها طرق أخوه محمد باب بيته طالبًا يدها لابنه ياسين. ظن أن الأمر مجرد مزحة، فياسين لم يكمل عامه الرابع عشر وسلوى لا تزال طفله تعود من مدرستها، ترمي حقيبتها وتقضي طوال النهار في اللعب بجانب البيت، فكيف تتحول في ليلة وضحاها إلى زوجة تتحمل مسؤولية زوج وبيت، وفي القرية زوجة الابن تتحمل أعباء تقصم ظهرها وهي شابة فكيف بها وهي طفلة! 
شاهد العديد من البنات وهن يُسحبن من ساحة اللعب إلى مقصلة الزواج منذ سن صغير، لم يعجبه الحال يومًا، وكثيرًا ما خاطب أولياء أمورهن بهذا الشأن، لكن كلامه لم يكن ذا قيمة لديهم، فهل يأتي اليوم الذي يُسلِّم طفلته لهذا الواقع الذي لن تتحمله ولن يتحمله أبدًا! حتى وإن كانت لديه عشر بنات فلن يفكر أبدًا بالتخلص من إحداهن بهذه الطريقة ليخف الحمل عليه. 
هاج غاضبًا على أخيه من تفكيره القاصر، مذكرًا إياه بعمر ابنته التي لم تتخط حاجز الطفولة بعد، مؤكدًا عليه أنه لن يقطع له أي وعد، وابنته حين تبلغ سن الزواج فلن يزوجها إلا لمن يوافق هو عليه وتوافق عليه ابنته، سواء كان قريبها أم لا. كانت هذه العبارة كفيلة بزج الأخ الأكبر في موجة غضب عارمة، فكيف يتطاول عليه من لا ولد ولا سند له بتلك الطريقة! نسي نفسه وأنه أب لأربع بنات، لا بد أن يحمد ربه ويشكر له صنيعه بأنه يفكر بسترهن وتخفيف العبء عليه، لكن في المقابل يجد منه تصرفًا أقل ما يمكن وصفه بأنه غير لائق. بنات أخيه لن يخرجن لأحد من خارج الأسرة، هذا أمر على "قائد" أن يفهمه جيدًا، لن يسمح له بأن يهينه ويهين العائلة بتصرفاته الطائشة. 
كان الأمر برمته مجرد محاولة منه لإثبات الذات، وتمديد السلطة التي تخطت البيت والأرض لتشمل بنات أخيه، شعوره بأن أخيه ضعيف ويشعر بالذل لخلفته الخالية من أي ولد يحمل اسمه واسم عائلته من بعده جعله يعتقد بأنه قادر على التحكم بمصيره ومصيرهن. 
"لن تجد من يقف معك وبناتك لن يتزوجهن غير أولادي، إن لم توافق فسيقضين حياتهن عوانس." 
 "لا شأن لك ببناتي." 
 "أنا كبير العائلة، ولا ولد لك يسندك، لذا كلمتي هي التي تسير على الجميع، سيتم الزواج شئت أم أبيت، سأتصرف حيال الأمر بنفسي وبطريقتي الخاصة"! 
غادر محمد البيت مغضبًا، ليتركه في خضم عاصفة من الغضب والمخاوف والأفكار المتضاربة. كان يشعر بالغيظ، فالأمر تعدى المعايرة ليتجاوز حدود المعقول، وكأنه قد فقد رجولته وقدرته على الاعتناء بنفسه لمجرد أنه لم يُرزق بولد. بأي حق يهدده ويتحكم بمصير بناته، بعد أن سلبه حقه في أرض أبيه وبيته يأتي اليوم ليتحكم بمصير بناته! حاول إشراك أخويه سيف ونذير في الأمر ليستعين بهما بمواجهة محمد، لكن لم يجد منهما أي عون، أخته حاولت إقناعه بمجاراة محمد وتزويج البنت، "فالبنت ما لها إلا الزواج" على حد كلامها! 
"ماذا سنفعل؟".. قالتها الزوجة بقلق. 
"لا أدري".. أجاب وأطرق مفكرا، كان يشعر بقيود عدة تخنقه وتشل تفكيره. 
"أخوك جبار، وأنت كثير الغياب عن البيت، أخاف أن يستغل غيابك ويأخذ البنت إلى بيته، أو يتصرف أي تصرف طائش يجبرنا على الموافقة". 
طنت كلمتها في رأسه فعجز عن النوم، تقلب في فراشه دون جدوى، وحين انتصف الليل كان قد اتخذ قراره الذي بدا جنونيًا "خديجة.. جهزي نفسك وبناتك، سنغادر الليلة إلى تعز." هزها برفق. 
لم تجادله أو تستفسر، بل قامت من فورها تجهز نفسها وبناتها للسفر وكأنها كانت تنتظر منه أن يرحمها من جحيم تسلط أخيه بمصير بناتها ووضعها في مواجهته في حال سفره، وبطبيعة الحال لن تكون قادرة على إيقافه عند حده. 
سار الجميع على رؤوس أصابعهم وكأنهم لا يريدون أن يوقظوا النائمين، ودَّعت فاطمة قريتها التي لم تتعرف عليها بعد، فحينها لم تتجاوز عامها الثالث، بالكاد كانت تبقى بصحبة أخواتها بجانب البيت. 
بعد ليلة مضنيه من السفر سيرًا على الأقدام، ثم رفقة سائق شاحنة رأف لهذه العائلة التي تسير في الظلام وصلوا المدينة، لم يتردد "قائد" طويلًا، فقد كان يعلم إلى أين عليه أن يذهب، طرق باب صديقه فلم يكن من المنطقي أن يأخذ عائلته لتبيت في المحل حيث يبيت هو كل ليلة حين يكون في المدينة.
ورغم صغر بيته إلا أن صديقه لم يتوان عن إيوائه وعائلتة دون حتى أن يطالب بشرح، في اليوم التالي شرحا المشكلة لصاحب المحل الذي بادر هو الآخر بالمساعدة بمجرد معرفته للسبب الذي أجبر قائد على ترك القرية. 
"وهل من المنطقي تزويج الفتاة في هذا العمر؟" سأله صديقه مستغربًا. 
"في قريتي يحدث هذا غالبًا، لكني لا أرضاه لابنتي فهي لا تزال طفلة من المعيب بحقي ألا أكفل لها الرعاية حتى تكبر". 
"وإن عرف أخوك مكانك!" 
"ليعرف، لا يهمني شأنه، ليس له شيء عندي، بل على العكس، حقي عنده، وإن أراد أن يتحمله فبيني وبينه رب لا يضيع عنده حق، أما بناتي فسأدفاع عنهن أمامه وأمام غيره، أحضرتهن معي لأني لا أستطيع البقاء في القرية طوال الوقت، فلا عمل لي هناك، وإن سافرت لا آمن شره عليهن، هن الآن معي وفي حمايتي." 
"لا تقلق، سنكون معك أيضًا". 
كادت الدموع تخنق "قائدًا"، فبين إخوته لم يجد من يقف إلى جانبه ويعده على الأقل أن يقف بوجه محمد إن حاول التصرف بطيش أثناء غيابه، بينما الغرباء لم يتركوه وحيدًا. بحثوا له عن بيت صغير يأويه وبنياته، زاد صاحب المحل من أجره ليكون قادرًا على تحمل تكاليف المعيشة في المدينة، سلمته زوجته ذهبها بالكامل ليشتري للبيت ما يلزم من ضروريات الأثاث، فخروجهم بتلك الطريقة كان يعني أن يتركوا خلفهم كل شيء فيما عدا بعض ثيابهم.

الأخبار الأخيرة

اشترك في نشرتنا الإخبارية

المشاركات الأخيرة

رسالة إلى الكاتب